وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْقَتِيلِ وَقَبْلَ قَسَامَتِهِ فَيَمْنَعُهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْقَسَامَةِ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ لِأَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ، وَهُوَ مَعَ ظُهُورِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مُنْزَجِرٍ وَيَكُونُ الْأَمْرُ مَوْقُوفًا عَلَى عُقْبَى رِدَّتِهِ فَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهَا أَقْسَمَ وَقُضِيَ لَهُ بِدِيَةٍ. وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا سَقَطَتِ الْقَسَامَةُ وَصَارَ الدَّمُ هَدَرًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتِيلِ وَارِثٌ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي الْقَسَامَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْسِمَ جَمِيعُهُمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْسِمَ عَنْهُمْ فَلِذَلِكَ صَارَ الدَّمُ هَدَرًا.
فَلَوْ أَقْسَمَ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ وَاسْتَوْفَى الْحَاكِمُ عَلَيْهِ أَيْمَانَ قَسَامَتِهِ صَحَّتِ الْقَسَامَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ فَفِي صِحَّةِ قَسَامَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْقَسَامَةُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِهَا الدِّيَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ مِنْهُ الْقَسَامَةُ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُمْنَعُ مِنِ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَهَذَا مِنِ اكْتِسَابِهِ وإن زال مِلْكَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ (قَسَامَتِهِ) كَانَتِ الدِّيَةُ مَوْقُوفَةً إِلَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ حَالُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ مَلَكَهَا وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ كَانَتْ فَيْئًا وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ قَسَامَتِهِ وَقَفَ أَمْرُهُ: فَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ، وَإِنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ صَارَ الدَّمُ هَدَرًا وَاللَّهُ أعلم.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْأَيْمَانُ فِي الدِّمَاءِ مُخَالِفَةٌ لَهَا فِي الْحُقُوقِ وهي في جميع الحقوق يمين يمين وفي الدماء خمسون يميناً وقال في كتاب العمد ولو ادعى أنه قتل أباه عمداً بل خطأ فالدية عليه في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ فإن نكل حلف المدعي لقتله عمداً وكان له القود (قال المزني) هذا القياس على أقاويله في الطلاق والعتاق وغيرهما في النكول ورد اليمين) .
قال الماوردي: الدعاوى ضربان في دم وغير دم، فَأَمَّا الدَّعَاوَى فِي غَيْرِ الدِّمَاءِ فَلَا تُغَلَّظُ بِغَيْرِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَلَا يُبْدَأُ فِيهَا بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَلَا تُكَرَّرُ فِيهَا الْأَيْمَانُ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهَا إِلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الدَّعْوَى لَوْثٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِقُصُورِ مَا سِوَى الدِّمَاءِ عَنْ تَغْلِيظِ الدِّمَاءِ. وَأَمَّا الدَّعَاوَى فِي الدِّمَاءِ، فَضَرْبَانِ: فِي نَفْسٍ، وَطَرَفٍ، فَأَمَّا فِي النُّفُوسِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِالدَّعْوَى لَوْثٌ فَتُغَلَّظُ بِالْقَسَامَةِ فِي حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْدِئَةُ الْمُدَّعِي وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا يُسْتَوْفَى فيه حكم كل مِمَّنْ كَمَلَتْ لَهُ دِيَتُهُ أَوْ نَقَصَتْ.