قتيلا قبل الليل فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود فإذا كانت دار قوم محضة أو قبيلة وكانوا أعداء للمقتول فيهم وفي كتاب الربيع أعداء للمقتول أو قبيلته ووجد القتيل فيهم فادعى أولياؤه قتله فلهم القسامة) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ فِي إِحْلَافِ الْمُدَّعِي يَكُونُ مَعَ اللَّوْثِ وَيَنْتَفِي مَعَ عَدَمِهِ - وَاللَّوْثُ - مَا شَهِدَ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا وَلَا يَتَخَالَجُ النَّفْسَ شَكٌّ فِيهَا.
وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى قَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضَهَا لِتَكُونَ دَلِيلًا عَلَى نَظَائِرِهَا فَمِنْهَا: مِثْلُ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتِيلِ الْأَنْصَارِ بَيْنَ الْيَهُودِ لِأَنَّ خَيْبَرَ كَانَتْ دَارَ يَهُودَ مَحْضَةً وَكَانَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً بِالذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَنُصْرَةِ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفَارَقَ عَبْدُ اللَّهِ أَصْحَابَهُ فِيهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَوُجِدَ قَتِيلًا قَبْلَ اللَّيْلِ، فَتَغَلَّبَ فِي النَّفْسِ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ غَيْرُ الْيَهُودِ فَيَكُونُ لَوْثًا يُحْكَمُ فِيهِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي.
وَقَالَ: مَالِكٌ لَا يَكُونُ اللَّوْثُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ إِلَّا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مَنْ لَا تَكْمُلُ بِهِ الشَّهَادَةُ. وَهَذَا مُوَافَقٌ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ قَبْلَ فِرَاقِهِ لِلدُّنْيَا. دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ فَيَكُونُ هَذَا لَوْثًا دُونَ مَا عَدَاهُمَا.
احْتِجَاجًا لِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] فَضُرِبَ بِهَا فَحَيَا. وَقَالَ: قَتَلَنِي فَلَانٌ فَقَتَلَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعَ فِرَاقِ الدُّنْيَا أَصْدَقُ مَا يَكُونُ قَوْلًا وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ تَحَرُّجًا فَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ تُهْمَةٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ لَوْثًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ مَا اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي كَالَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي قَتِيلِ الْأَنْصَارِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا مَاتَ لَقُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا انْدَمَلَ جُرْحُهُ وَعَاشَ وَلَوْ قُبِلَ فِي الدَّمِ لِقُبِلَ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا قَالَهُ لِعَدَاوَةٍ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ أَنْ لَا يَعِيشَ عَدُوُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أو لفقر قربته فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَغْنُوا بِالدِّيَةِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَمَّا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتِلْكَ قِصَّةٌ أَحْيَا اللَّهُ بِهَا الْقَتِيلَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى، وَلَوْ كَانَ مِثْلُهَا لَجُعِلَ لَوْثًا وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ.
وَأَمَّا انتفاء التهمة عنه فباطل بدعوى الحال وَلِأَنَّ مَالِكًا يُورِّثُ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ فَيُلْحِقُ بِهِ التُّهْمَةَ فِي حَالٍ وَيَنْفِيهَا عَنْهُ فِي حَالٍ، فَتَعَارَضَا قَوْلَاهُ فَبَطَلَا.