الْجَانِيَ ذَلِكَ وَلَا يُقْضَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَصَبَةً لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَهُ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مَالَهُ عَلَى الْمِيرَاثِ إِنَمَا يَأْخُذُونَهُ فَيْئًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَنَى الذِّمِّيُّ فِي دار الإسلام جناية خطأ فله حالتان:
أحدهما: أن تكون له عاقلة من مناسبيه.
والثاني: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَمْ يَعْقِلُوا عَنْهُ كَمَا لَمْ يَرِثُوهُ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ قَاطِعٌ لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا غَيْرَ مُسْلِمِينَ فَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ دِيَاتُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ وَعَاقِلَتُهُ يَهُودًا كُلَّهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ فَكَانَ الْقَاتِلُ يَهُودِيًّا وَعَاقِلَتُهُ نَصَارَى؛ لِأَنَّ الكفر كله ملة واحدة، ولا يخلوا حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا أَوْ لَا تَجْرِيَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُنَا لِمَقَامِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ الْجَانِي كَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّنَاصُرِ، وَظُهُورِ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَوَارَثُوا؛ فَكَذَلِكَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَعْقِلُوا، وَإِنْ جَرَتْ أَحْكَامُنَا عَلَى عَاقِلَةٍ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةٍ حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ بِالْعَقْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ إِنْ شَارَكُوهُ فِي النَّسَبِ وَوَافَقُوهُ فِي الذِّمِّيَّةِ احْتِجَاجًا بِأَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ بِالذِّمَّةِ وَلَا يَتَنَاصَرُونَ فِيهَا فَبَطَلَ التَّعَاقُلُ بَيْنَهُمْ لِذَهَابِ التَّنَاصُرِ مِنْهُمْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَنْسَابِ الَّتِي يَتَوَارَثُونَ بِهَا تُوجِبُ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيَتَنَاصَرُونَ عَلَى الْحَقِّ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلذِّمِّيِّ عَاقِلَةٌ مُنَاسِبُونَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَعْقِلُ عَنْهُ أَهْلُ جِزْيَتِهِ الَّذِينَ فِي كَوْرَتِهِ لِأَنَّهُمْ مُشَارِكُوهُ فِي ذِمَّتِهِ وَجِزْيَتِهِ كَمَا يَتَحَمَّلُ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَمَعَهُمُ الْحَقُّ فَصَحَّتْ مُوَالَاتُهُمْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ جَمَعَهُمُ الْبَاطِلُ فَبَطَلَتْ مُوَالَاتُهُمْ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَعْيَانُ الْأَجَانِبِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْقِلُوا عَنِ الذِّمِّيِّ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتْ جِنَايَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ مَالِهِمْ؟ قِيلَ: إِنَّمَا صَارَ مِيرَاثُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا وَلَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ إِرْثًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ وَعَقَلَ عَنِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ إِلَيْهِ إِرْثًا.