الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] لِأَنَّهُ خَسِرَ أَخَاهُ وَدِينَهُ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] لِأَنَّهُ تَرَكَ أَخَاهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَدْفِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ قَبْلَهُ مَقْتُولًا وَلَا مَيِّتًا، وَفِي بَحْثِ الْغُرَابِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى مَا يَدْفِنُهُ فِيهَا لِقُوَّتِهِ فَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بَحَثَ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ حتى دفنه {قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغرب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة: 31] فَدَفَنَهُ حِينَئِذٍ وَوَارَاهُ فأصبح من النادمين فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ.
وَالثَّانِي: مِنَ النَّادِمِينَ عَلَى أَنْ تَرَكَ مُوَارَاةَ سَوْأَةِ أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَنْهَاهُ مِنْ حَالِ ابْنَيْ آدَمَ {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] أَنْ خَلَّصَهَا مِنْ قَتْلٍ وَهَلَكَةٍ وَسَمَّاهُ إِحْيَاءً لِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُحْيِي، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بِقَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا وَإِحْيَاءِ النَّاسِ جَمِيعًا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ عِنْدَ الْمَقْتُولِ، وَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ دَمَ الْقَاتِلِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُمْ جَمِيعًا وَعَلَيْهِمْ شُكْرَ الْمُحْيِي كَمَا لَوْ أَحْيَاهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ.
وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضُرِبَا مَثَلًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمَا وَدَعُوا شَرَّهُمَا ".
وَقَالَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 92] الْآيَةَ وَهَذَا أَغْلَظُ وَعِيدٍ يَجِبُ فِي أَغْلَظِ تَحْرِيمٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الوَعِيدِ إِنَّ تَوْبَةَ الْقَاتِلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا نَازَلْتُ رَبِّي فِي شَيْءٍ كَمَا نَازَلْتُهُ فِي تَوْبَةِ قَاتِلِ الْعَمْدِ فَأَبَى عَلَيَّ " وَذَهَبَ مَنْ سِوَاهُ إِلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إِلَى قَوْلِهِ: {إلا من تاب} فَاسْتَثْنَاهُ مِنَ الوَعِيدِ، فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ الْآيَةِ الْأُولَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنْسَخَ ما بعدها.