وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ، وَعَنْ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَشْرَ نُسِخْنَ بالخمس، إنما هما جميعاً بالسنة إلا بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ إِلَى الْقُرْآنِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: امْرَأَةٌ مَا وَجَدْتُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَمِثْلُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَخْبَرْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتدوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَسُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ فِي صَحِيفَةٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَشَاغَلْنَا بِغَسْلِهِ فَدَخَلَ دَاجِنُ الْحَيِّ فَأَكَلَهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا كَانَ مَحْرُوسًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي أَكَلَهُ دَاجِنُ الْحَيِّ رَضَاعُ الْكَبِيرِ وَحُكْمُهُ مَنْسُوخٌ.
وَالثَّانِي: أنه العشر منسوخ بالخمسن وَذَلِكَ غَيْرُ صَائِرٍ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَاجِيلُ أُمَّتِي فِي صُدُورِهَا، وَلَوْ أُكِلَتْ مَصَاحِفُ الْعُمْرِ كُلُّهَا، لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُرْآنِ لِحِفْظِهِ فِي الصُّدُورِ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا هَذَا إِثْبَاتٌ نُسِخَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا قَالَتْ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُنَّ مِمَّنْ يُقْرَأُ فِي الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رَوَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ نَسْخًا كَانَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ وَقَوْلُهَا كَانَ مِمَّا يُقْرَأُ أَيْ مِمَّا يُعْمَلُ بِهِ.
والثاني: أنه كان يقرأ بعد رسول لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ لَا لِإِثْبَاتِ تِلَاوَتِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ حُكْمُهُ تُرِكَتْ تِلَاوَتُهُ.
وَالِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ نَسْخٍ بِخَبَرِ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِخْبَارِ التَّوَاتُرِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا خَبَرُ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ بِهَا خَبَرُ النَّاسِخِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي إِثْبَاتِ الْمَنْسُوخِ دُونَ النَّاسِخِ.