وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا اللِّعَانُ دُونَ الْحَدِّ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ حُبِسَتْ حَتَّى تُلَاعِنَ، وَلَمْ تُحَدَّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثلاث خصال، كفره بعد إيمانه، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلٌ بِغَيْرِ نَفْسٍ " فَمَنَعَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ قَتْلِهَا بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثِ خِصَالٍ.
وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِلِعَانِ الزوج مفضي إِلَى قَتْلِهَا إِنْ كَانَتْ مُحَصْنَةً، وَفِيهِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ الْخَبَرُ، وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ بِهِ حَدٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ كَالْأَيْمَانِ طَرْدًا وَالشَّهَادَةِ عَكْسًا، قَالُوا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينٌ، وَهُوَ لَا يَحْكُمُ بِالنُّكُولِ عَلَيْهَا، وَفِي حَدِّهَا إِنِ امْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] وَذِكْرُ الْعَذَابِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى جِنْسٍ، أَوْ مَعْهُودٍ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى جِنْسِ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ على المعهود وهو الحد لقوله تعالى: {أو ليشهد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] .
فَإِنْ قِيلَ فَالْجنْسُ مَعْهُودٌ فِي عَذَابِ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْحُقُوقِ.
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْجنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجنسَ لَمْ يُسَمَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَذَابًا وَقَدْ سُمِّيَ الْحَدُّ عَذَابًا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] يَعْنِي الْحَدَّ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَانَهَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْوَاجِبَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَالْجنسُ لَمْ يَجِبْ بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِامْتِنَاعِهَا، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ بِهِ الزَّوْجُ مِنْ قَذْفِهِ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِهِ الْحَدُّ عَلَى زَوْجَتِهِ كَالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِبَيِّنَةِ الزَّوْجِ ثَبَتَ بِلِعَانِهِ كَالْجنسِ، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرَأَ بِلِعَانِهَا الْحَدُّ كَالزَّوْجِ، وَلِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ اسْتُفِيدَ صِدْقُهُ فِيهِ كَالْمُتَلَاعِنَيْنَ، وَلِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الزِّنَا وَنَفْيَ الْوَلَدِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِلِعَانِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ به ثبوت الزنا. لأنه أَحَدُ مَقْصُودَيِ اللِّعَانِ، وَثُبُوتُ الزِّنَا مِنْهَا يُوجِبُ الحد عليها.
وأما الجواب عن استدلاله بالخير فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ قَتْلَهَا بِزِنَاهَا بَعْدَ إِحْصَانِهَا وَبِذَلِكَ تُقْتَلُ لَا بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَا لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجَةِ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الزَّوْجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي اللِّعَانِ حُكْمُ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِهَا