وَالثَّالِثُ: أَنَّنَا نُسَلِّمُ الْحَدِيثَ، وَنَحْمِلُ قَوْلَهُ: " لَا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ "، إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَغَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ لِعَانُهُ إِلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَمَا فَائِدَةُ التَّخَصُّصِ؟ .
قِيلَ: فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِيهِمْ لِنَقْصِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ جَوَازُ لِعَانِ الْعَبْدِ عِنْدَ سَيِّدِهِ، وَلِعَانِ الْكَافِرِ فِي أَهْلِ دِينِهِ، فَنَفَى النَّصُّ هَذَا التَّوَهُّمَ، عَلَى أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ قَالَ: لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّغِيرَةِ: فَهُوَ أَنَّ لِلصَّغِيرَةِ حَالَتَيْنِ: حَالَةٌ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا فَاللِّعَانُ فِيهَا يَصِحُّ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بُلُوغِهَا، لِأَنَّ قَذْفَهَا بِالزِّنَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُمْكِنُ وطء مثلها، فالقذف هنا مستحيل للعلم يكذبه، فَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ كَمَنْ يَجُوزُ صِدْقُهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ لِعَانُ الزَّوْجِ يَمِينٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَكَالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ لِوُجُوبِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَالشَّهَادَةُ تسمع على الكافرة والمملوكة، فكذا اللِّعَانُ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ اللِّعَانِ يَمِينًا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرَيْنِ وَالْمَمْلُوكَيْنِ كَمَا يَصِحُّ مِنَ الْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ، وَكَذَلِكَ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ لَزِمَهَا الْفَرْضُ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: جَازَ طَلَاقُهُ أَيْ كَانَ مُكَلَّفًا؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ بِالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ لَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِعَانُهُ، وقوله: ولزمه الغرض، أَرَادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَتَيْنِ فَسَّرَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لِعَانُهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَّفَةٍ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُلَاعِنَ الزَّوْجُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِعَانُهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ، لَا يَخْتَلِفُ القول فيه الفرقة ونفي الولد وهذا صحيح، ليس يختلفان اللِّعَانُ بِالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ كَمَا تَخْتَلِفُ حُدُودُ الْقَذْفِ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ كَمَا تَخْتَلِفُ الْحُدُودُ وَالطَّلَاقُ. وَجَمِيعُهُمْ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ وَأَحْكَامِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ قَالَ: وَتَخْتَلِفُ الْحُدُودُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهَذَا صَحِيحٌ، إِنَّمَا يَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْمَقْذُوفِ بِالْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ كَامِلًا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا بِالرِّقِّ، أَوِ الْكُفْرِ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَيَلْزَمُ التَّعْزِيرُ، وَيَخْتَلِفُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَإِنْ كَانَ حُرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا وَجَبَ عَلَيْهِ نصف الحد أربعون جلدة والله أعلم.