وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ: إنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: إنَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْآدَمِيِّ فَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَشَاهِدَانِ وَجَبَ بِغَيْرِ مُطَالَبَةٍ، وَإِنْ سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَحْدَهُ لَمْ يَجِبْ إِلَّا بِالْمُطَالَبَةِ، وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ قَبْلَ التَّرَافُعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ.
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وَهَذَا خِطَابٌ مُتَوَجَّهٌ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ، وَكُلُّ خِطَابٍ تُوُجِّهَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ كَانَ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ حُقُوقِ الآدميين كقوله: {الزاني والزانية فاجلدوا} [النور: 2] ، و {السارق وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَالٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالزِّنَا.
وَلِأَنَّهُ حَدٌّ يُفَرَّقُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ حَدَّ الْخَمْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَوَجَبَ إِذَا قَذَفَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَقَالَ: زَنَيْتُ أَنْ لَا يُحَدَّ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ حَقٌّ فَلَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَذْفِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ".
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ أَعْرَاضَنَا إِلَيْنَا كَإِضَافَةِ دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، ثُمَّ كَانَ مَا وَجَبَ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَذَلِكَ مَا وَجَبَ فِي الْأَعْرَاضِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ ". فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ عَنْ عَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ عَفْوِهِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ إِذَا ثَبَتَ بِالِاعْتِرَافِ لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالْقِصَاصِ.
وَقِيَاسٌ ثَانٍ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ إِلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقُوقِ