فَقَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقُلْتُ: لَا أَمْلِكُ قَالَ: فَأَعْطَانِي خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَقَالَ: (أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا لِأَنَّ الْخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا سِتُّونَ مُدًّا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ وَالْبُرَّ سَوَاءٌ لِأَنَّ أَقَلَّ مِنْ مُدِّ بُرٍّ لَا يُجْزِئُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا عَانَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِيُتَمِّمَ بَاقِيَهُ مِنْ عِنْدِهِ. قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلِكْتُ وَأَهْلَكْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ) قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ: (اعْتِقْ رَقَبْةً) فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: (صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ: (أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقَالَ: لَا أَمْلِكُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق من تمر فقال: (خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: (كُلْهُ أَنْتَ وَأَهْلُكَ) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَالْعَرَقُ ما بين خمسة عشرة صَاعًا إِلَى عِشْرِينَ صَاعًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمِسْكِينُ صَاعًا وَلَا نِصْفَهُ، وَالْعَرَقُ كَالزِّنْبِيلِ مِنْ خُوصٍ لَيْسَ لَهُ عُرًى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مد من حنظة وَبِغَيْرِ إِدَامِهِ، وَوَافَقَهُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ تَكْفِيرٌ بِإِطْعَامٍ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ حَقُّ الْمِسْكِينِ بِصَاعٍ، كَالْبُرِّ، وَلِأَنَّهُ حَبٌّ مُخْرَجٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَوَى فِي قَدْرِهِ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَتَقَدَّرَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالدَّيْنِ.
وَمِنَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا بَدَلًا مِنْ صِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا فَجَعَلَ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِطْعَامِ فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يُعَانِيهِ وَيَنْزِفُهُ فِي الصِّيَامِ وَالَّذِي كَانَ يُعَانِيهِ جُوعُهُ فِي صِيَامِهِ فِي نَهَارِهِ تَرَفُهُ فِيهَا بِغَدَائِهِ فَلَزِمَ أَنْ يَسُدَّ جَوْعَةَ الْمِسْكِينِ بِمِثْلِهِ وَالْغَدَاءُ الَّذِي يَسُدُّ الْجَوْعَةَ فِي الْأَغْلَبِ مُدٌّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هذا القدر المدفوع إلى كل مسكين أن هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي كَانَ يُتْرِفُهُ بِهِ فِي صِيَامِهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِفْطَارِهِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ أَوْسِ بن الصامت فتستعمل الْحَدِيثَيْنِ وَنَسْتَعْمِلُ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَدَفْعَ الْوَسْقِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ