قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَفِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَاتِ الْفَسَادِ فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَحُكْمُهَا فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَسْتَبِيحُهُ مِنَ الْقُرْبِ حُكْمُ النِّسَاءِ الطَّاهِرَاتِ إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ بِالْوُضُوءِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ حَدَثٍ، غَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ.
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صلاةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ النَّادِرَ لَا وُضُوءَ فِيهِ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ نَادِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي " وَالْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ خَبَرَهَا قَالَ ثُمَّ اغْتَسِلِي ثُمِّ تَوَضَّئِي لِكُلِ صلاةٍ.
ذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ قِيَاسًا عَلَى فَرْضِهِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ قَضَاءً كَالْمُحْدِثِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة من الخبر فمن وجهين:
أحدهما: أن للفائت وقتاً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ يَتَنَاوَلُ الْفَوَائِتَ وَغَيْرَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالْوَقْتِ، فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ دُونَ الْوَقْتِ.
وَأَمَّا قياسه على المتنفل فَفَاسِدُ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّ النَّفْلَ أَخَفُّ حَالًا، وَأَقَلُّ شُرُوطًا وَالْفَرْضَ أَغْلَظُ حَالًا وَآكَدُ شُرُوطًا، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ أَنْ