لَا يَصِحُّ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَتْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا، فَلَمْ يَجِبْ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمُ مَالٍ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا، وَرَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالٌ مُوجِبٌ بِتَسْلِيمِ مَنْفَعَتِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ حِينَ تَزَوَّجَ مُوسَى بِابْنَتِهِ {إِنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكُحكَ إحْدَى ابْنَتَي هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ) {القصص: 27) يَعْنِي عَمَلَ ثَمَانِي حِجَجٍ فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الْعَمَلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ رَعْيُ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَعْيَ مُوسَى ثَمَانِي سِنِينَ صَدَاقًا لِبِنْتِهِ. وَهَذَا نَصٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: فهذا في غير شريعتنا فلم يلزمنا.
قِيلَ شَرَائِعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَازِمَةٌ لَنَا عَلَى قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَرِدْ نَسْخٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صَدَاقِهَا لِنَفْسِهِ وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) {النساء: 4) قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ مَجَازًا لِقِيَامِهِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا دُونَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ نَسْخُ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَلِيَلًا عَلَى نَسْخِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَشُعَيْبٌ جَعَلَ الْمَنْفَعَةَ مُقَدَّرَةً بِمُدَّتَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَتِنَا.
قِيلَ: الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ثَمَانُ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِي حِجَجٍ وَاجِبَةٍ وَكَانَتْ سَنَتَانِ عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَصَحَّ أَنْ تَثْبُتَ صَدَاقًا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ فَصَحَّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ صَحَّ أَنْ يَثْبُتَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالدَّرَاهِمِ.
أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا مَنْفَعَةٌ لَا تَجِبُ بِتَسْلِيمِهَا تَسْلِيمُ مَالٍ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ لَيْسَتْ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ، فَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَإِنَّمَا الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ مَالًا، أَوْ غَيْرَ مَالٍ، فَالْإِجَارَةُ عَلَى مَنَافِعِ الْحُرِّ كَالْإِجَارَةِ عَلَى مَنَافِعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَقَبَةُ الْحُرِّ مَالًا وَكَانَتْ رَقَبَةُ الْعَبْدِ مَالًا. فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَصْدَقَهَا مَنَافِعَ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ مَنَافِعَ وَقْفِهِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّقَبَةُ مَالًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَتِنَا فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَجَعَلَ صَدَاقَهَا أَنْ يَأْتِيَهَا بِعَبْدِهَا الْآبِقِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ الْمَكَانِ، تصح الْإِجَارَةُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِ، فَهَذَا صَدَاقٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا جَازَتْ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ.