وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِ دُونَ أَمَانَةِ غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يد غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهَا، فَصَارَتْ مُتَعَدِّيَةً، وَلَزِمَ الضَّمَانُ، وكان مالكها مخير بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَوْدَعِ الْأَوَّلِ إِنْ تَلِفَتْ أَوْ مُطَالَبَةِ الثَّانِي.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَهُ مُطَالَبَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَوَافَقَ فِي الْغَاصِبِ إِذَا أَوْدَعَ أَنَّ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يُودِعَ، كَمَا لَيْسَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يُودِعَ، فَصَارَ الْمُسْتَوْدَعُ مِنْهُمَا جَمِيعًا يَدُهُ غَيْرُ مُحِقَّةٍ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْحَالِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ مُطَالَبَةَ أَيِّهِمَا شاء بغرمها، فَإِنْ أُغْرِمَهَا الثَّانِي نُظِرَ فَإِنْ عَلِمَ بِالْحَالِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ لم يعلم ففي رجوعه عليه بغرمها وَجْهَانِ.
وَإِنْ أُغْرِمَهَا الْأَوَّلُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِمًا بِالْحَالِ رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْغَاصِبِ إِذَا وَهَبَ مَا غَصَبَهُ ثُمَّ غَرِمَهُ هَلْ يَرْجِعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَعَلَى مَالِكِ الْوَدِيعَةِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِخِلَافِ قَبْضِ الْوَدِيعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ.
وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى أَحَدٍ مَعَ حُضُورِ مَالِكِهَا وَخَلَّفَهَا وَسَافَرَ ضَمِنَهَا، وَقَالَ: إِنْ خَلَّفَهَا مَعَ أَمْوَالِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْحِرْزَ بِغَيْرِ حَافِظٍ لَا يَكُونُ حِرْزًا، وَتَغْرِيرُهُ بِمَالِهِ لَا يَكُونُ فِي الْوَدِيعَةِ عُذْرًا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَ الْمُودِعُ حَاضِرًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُودِعُ غَائِبًا عِنْدَ إِرَادَةِ الْمُسْتَوْدَعِ السَّفَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهَا.
والثاني: أن لا يَكُونَ لَهُ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَكِيلٌ فَوَكِيلُهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِهَا، لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي عُدُولِ الْمُسْتَوْدَعِ إِلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ فِي عُدُولِهِ عَنِ الْمُودِعِ مَعَ حُضُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَكِيلٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِقَبْضِهَا هُوَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لَزِمَهُ الْإِشْهَادُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنِ الْحَاكِمِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُونًا فَدَفَعَهَا إِلَى أَمِينٍ ثِقَةٍ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْأَمِينَ عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَاكِمَهُ الْمُودِعُ فِيهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِمَا عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاكِمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَضْمَنُ، لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْحَاكِمِ وَاخْتِيَارَ الْأَمِينِ اجْتِهَادٌ، وَلِأَنَّ نَظَرَ الْحَاكِمِ عَامٌّ وَنَظَرَ الأمين