إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِخَلْقِهِ آجَالًا وبسط لهم فيها آمالا ثم أخفى عليهم حلول آجَالِهِمْ وَحَذَّرَهُمْ غُرُورَ آمَالِهِمْ، فَحَقِيقٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أن يكون مباهيا لِلْوَصِيَّةِ حَذِرًا مِنْ حُلُولِ الْمَنِيَّةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سمعه} [البقرة: 181] . إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] .
أَمَّا قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عليكم} . فَيَعْنِي: فُرِضَ عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: " إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت: يعني أسباب الموت ".
إن ترك خيرا: يَعْنِي مَالًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَيْرُ فِي الْقُرْآنِ كله المال: {وإنه لحب الخير الشديد} [العاديات: 8] . الْمَالُ فَقَالَ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] الْمَالُ. {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الْمَالُ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] . يَعْنِي الْغِنَى. وَقَالَ الشافعي: الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] . فقلنا: إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة، لا بالمال. وقال تعالى: {أولئك هم خير} فقلنا إن الخير المنفعة بالأجر وَقَالَ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] . فَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَرَكَ مَالًا، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَتْرُوكُ. ثُمَّ قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الْأَقْرَبِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ الْأَوْلَادُ الَّذِينَ لَا يَسْقُطُونَ فِي الْمِيرَاثِ، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ الَّذِينَ يَسْقُطُونَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلِّهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كُلُّ الْأَقَارِبِ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ.
واختلفوا في ثبوت حكمها فقال بعضهم: كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ حَقًّا وَاجِبًا، وَفَرْضًا لَازِمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ نُسِخَ مِنْهَا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَكُلُّ