الْمُكَافَأَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الصَّدَقَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عُقُوقًا وَعُقُوقُ ذِي الرَّحِمِ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَأُثِيبَ لَمْ يَرْجِعْ وَهَذَا قَدْ أُثِيبَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هِبَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ.
وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبشير في هبته للنعمان مِنْ بَيْنِ وَلَدِهِ " فَأَرْجِعْهُ " فَلَوْلَا أَنَّ رُجُوعَهُ جَائِزٌ لَمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَكَانَ الْأَوْلَى لَوْ فَعَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَجُوزُ لرجلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ وَيَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَ عَادَ فِي قَيْئِهِ "، وَهَذَا نَصٌّ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ وَبِهَذَا يَخُصُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَيُتَمِّمُ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ الثَّانِي، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ "، فَمَيَّزَ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ كَسْبًا لِوَالِدِهِ فَكَانَ مَا كَسَبَهُ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِهِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسٌ فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ وَهَبَ كَسْبَهُ لِكَسْبٍ غَيْرِ مُعْتَاضٍ عَنْهُ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَلِأَنَّ مَا لِلْوَلَدِ فِي يَدِ وَالِدِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا وَأَخَذَ النَّفَقَةَ مِنْهُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا فَصَارَتْ هِبَةً لَهُ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ فِي حُكْمِ مَا وَهَبَهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَقْبِضْهُ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ أَقْبَضَهُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهَا هِبَةٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ تُبَايِنُ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ غَيْرِهِ فَلَا يُعَادِيهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي يَدَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ وَفِي مَالِهِ بِالْعُقُودِ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَانْتِفَاءِ التُّهَمِ فَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ غَيْرَهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ فِيهَا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّنَا وأبا حنيفة قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَذِي الرَّحِمِ فَلِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِيهَا مَعَ ذِي الرَّحِمِ الْمُبَاعِضِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ دُونَ ذِي الرَّحِمِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: النَّصُّ الْمُعَاضِدُ.
وَالثَّانِي: الْبَعْضِيَّةُ الْمُمَازَجَةُ.
وَالثَّالِثُ: التَّمْيِيزُ بِالْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَعَانِي جَوَابٌ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّوَابِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ بِالْمَالِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَدَلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ فَخَالَفَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْبَدَلُ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْهِبَةِ غَيْرُ الرَّاجِعِ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ.
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يرجع فيها، استدلالاً بحديث عمرو.
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَصَاصُ عَلَى واهبه