فَقُرَاءَ الْيَهُودِ وَمَسَاكِينَهُمْ، فَإِنْ جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ فِيهَا حَظًّا جَازَ الْوَقْفُ، وَإِنْ جَعَلَهَا مَخْصُوصَةً بِالْفُقَرَاءِ الْيَهُودِ فَفِي صِحَّةِ وَقْفِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْوَقْفِ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا صَارَتْ كَبَيْعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ والإنجيل فباطل، لأنها مبدلة، فصار وقف عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُعَلِّلُ بُطْلَانَ الوقف عليها بأنها كتب قد نخست وهذا تعليل فاسد لأن تلاوة النسوخ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ خَطَأٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يتلا وَيُكْتَبُ كَغَيْرِ الْمَنْسُوخِ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ.
: وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ وَقْفُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَرَطَ أَوَّلَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ جَمِيعَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ حِينَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِهِ مَنْ يَشْتَرِيَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ وَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ خيرٌ مِنْهَا فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَقَالَ فِي بِئْرِ رُومَةَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهِ، وَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَطَ فِيهَا رِشًا كَرِشَا الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصاحب البدنة " اركبها إذا ألجئت إليها حتى تَجِدَ ظَهْرًا " فَجَعَلَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتق صفية، وجعل عتقها صدقها معاد إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ جَعَلَ رِبَاعَهُ صَدَقَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّهُ لما استوى هو وغيره في الوقت الْعَامِّ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْوَقْفِ الْخَاصِّ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَبِتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ، وَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ وَلَا الْهِبَةُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنَافِعِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ كَاسْتِثْنَائِهِ فِي العتق أَحْكَامِ الرِّقِّ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْوَقْفِ، ولأن الوقف يوجب إزالة ملك استحداث غَيْرِهِ وَهُوَ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يدل بِالْوَقْفِ مِلْكًا وَلَا اسْتَحْدَثَ بِهِ مِلْكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُثْمَانَ شَرَطَ فِي بِئْرِ رُومَةَ أَنْ يَكُونَ دَلْوُهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمَيْنِ فَهُوَ أَنَّ المال عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِجَازَةِ فَلَمْ يقف ما اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْبِئْرِ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا دُونَهُمْ وَأَنَّهُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ.