وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَدْفَعُ إِلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ.
: وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُسْبَلَةً مُؤَبَّدَةً لَا تَنْقَطِعُ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ بِأَنْ قَالَ: وَقَفُتُ دَارِي عَلَى زَيْدٍ سَنَةً لم يجز، وأجازه ما ملك، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِكُلِّ مَالِهِ وَبِبَعْضِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ عَارِيَةٌ وَلَيْسَتْ وَقْفًا.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَارِيَةَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذِهِ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، أَوْ هَذَا خطأ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَهَذَا أَصْلٌ غَيْرُ مُحْبَسٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ إِلَى مُدَّةٍ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَتَقَ إِلَى مُدَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ فَلَيْسَ فِي الْهِبَاتِ رُجُوعٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصَايَا والصدقات فليس فيها. لزوال الْمِلْكِ رُجُوعٌ، وَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ مَالِهِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْفِ بَعْضِ مَالِهِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَفِي وَقْفِهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوَقْفَ إِلَى مُدَّةٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ الْمُتَقَطِّعُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ بمدة لا يجوز.
أَنْ يَقُولَ وَقَفْتُ بَعْدَهُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ فَيَصِيرُ الْوَقْفُ مُنْقَطِعًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يُعْلَمُ تَأْبِيدُهُ لِجَوَازِ انْقِرَاضِهِمْ فَصَارَ وَقْفًا مُنْقَطِعًا، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ نَفَرٍ لَأَنَّ الْمَسْجِدَ وَالرِّبَاطَ قَدْ يُخَرَّبَانِ وَيَبْطُلَانِ وَالثَّغْرَ قَدْ يُسَلَّمُ أَهْلَهُ فَصَارَ مُنْقَطِعًا حَتَّى يَقُولَ فَإِنْ بَطَلَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ وَقْفًا بَاقِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَغْرٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ مُقَدَّرًا وَلَا مُنْقَطِعًا فَفِيهِ قَوْلَانِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ: لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا، وَالْمُنْقَطِعُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَلَمْ يَصِرْ وَقْفًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَوْجُودًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ كَالْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ كَانَ مِلْكُ الْوَاقِفِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَصْلِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، وله التصرف فيه كسائر أملاكه.
وإذا قِيلَ: بِجَوَازِ الْوَقْفِ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَوْجُودِ مَا كَانَ بَاقِيًا لَا حَقَّ لَوَاقِفِهِ فِيهِ فَإِذَا هَلَكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَقْفُ فينقطع سبله فلا يخلوا حال الواقف في شرطه الواقفة من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يشترط تحريمها وتأبيدها.