فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّتَهُ وَإِنْ كَانَ بُسْتَانًا فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَرَتَهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مَالٌ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مَالًا قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ كَمَا لَا يَمْلِكُ العتق بيع رقبته.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كثيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَقَدْ حَكَى لِي عددٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهَا حَتَى مَاتُوا يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنِ الْعَامَّةِ لا يختلفون فيه (قال الشافعي) رحمه الله: وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لعلي ما وصفت لم يزل من تصدق بها من المسلمين من السلف يلونها على من ماتوا وإن نقل الحديث فيها كالتكلف (قال) واحتج محتج بحديث شريحٍ أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاء بإطلاق الحبس فقال الشافعي الحبس الذي جاء بإطلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو كان حديثاً ثابتاً كان على ما كانت العرب تحبس من البحيرة والوصيلة والحام لأنها كانت أحباسهم ولا نعلم جاهلياً حبس داراً على ولدٍ ولا في سبيل الله ولا على مساكين وأجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر الحبس على ما روينا والذي جاء بإطلاقه غير الحبس الذي أجازه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) واحتج محتج بقول شريح لا حبس عن فرائض الله (قال الشافعي) رحمه الله: لو جعل عرضةً له مسجداً لا تكون حبساً عن فرائض الله تعالى فكذلك ما أخرج من ماله فليس بحبسٍ عن فرائض الله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَسَائِرُ النَّاسِ.
فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ "، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى ثَمَرَةً مُلْقَاةً فَقَالَ: " لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا " وَلِأَنَّ الصَّدَقَاتِ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَقْبَلُهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إليه تمراً في طبقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: صَدَقَةٌ فَرَدَّهُ، ثُمَّ حَمَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: هديةٌ فَقَبِلَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من لحمٍ تصدق به على بريرة وَقَالَ: " هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هديةٌ " وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ أَوْ لِأَجْلِ الِاسْتِحْبَابِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الصَّدَقَةَ عَلَى سَلْمَانَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لَمَا رَدَّهَا وَلَكَانَ يَطِيبُ قَلْبُهُ بِقَبُولِهَا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لَمَّا رَدَّ حِمَارَهُ الَّذِي أَهْدَاهُ إِلَيْهِ وَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَيْسَ بنا رد عليك وكلنا حُرُمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ