وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ بِلَا عِوَضٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَامٌ وَخَبَرُنَا خَاصٌّ فَقَضَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَلَأِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أُخِذَ اسْتُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَنَبَعَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَشِيشُ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ لَا يُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَشِيشَ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ وَالْمَاءَ لَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَخِيرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطِشَ زَرْعُهُ فَلَمْ يَسْقِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَطِشَ حَيَوَانٌ أُجْبِرَ عَلَى سَقْيِهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَدل لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ آلَتَهُ الَّتِي هِيَ الْبَكَرَةُ وَالدَّلْوُ وَالْحَبْلُ، لِأَنَّهَا تَبْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا تُسْتَخْلَفُ، وَيُفَارِقُ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ بَدَلُهُ.
: فَأَمَّا الَّذِي قَدْ حَازَهُ وَجَمَعَهُ في جبة أو مركبه أو مصنعة فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْبِئْرِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فِي الْمِيَاهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مِنْ فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مِلْكِهَا.
وَالْآخَرُ: فِي السَّقْيِ مِنْهَا.
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مُبَاحٌ، وَمَمْلُوكٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَأَمَّا المباح كما الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ الْكَبِيرِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ، وَمِثْلُ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ فِي مَوَاتِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ فَكُلُّ هَذَا مُبَاحٌ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا أَرَادَ كَيْفَ شَاءَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ " وَلِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ وَإِنْ زَادَ هَذَا الْمَاءُ وَدَخَلَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَمْ يَمْلِكُوهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَطَرٌ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ فَمَكَثَ أَوْ فَرَّخَ طَائِرٌ فِي بُسْتَانِهِ أو توحل ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَانَ بِمَنْ حَازَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَكُلُّ مَا حَازَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ مِنْ قِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ سَاقَهُ إِلَى بِرْكَةٍ فَجَمَعَهُ فِيهَا