وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ.
فَإِنْ تَمَادَى الْأَمْرُ بِمُسْتَأْجِرِهَا حَتَّى حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ طُولِبَ بِالْأُجْرَةِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُخَرِّجُونَ تَخْيِيرَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ تَعَدِّيَ الزَّارِعِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْحِنْطَةِ إِلَى مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهَا كَتَعَدِّيهِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْأَرْضِ مُلْتَزِمًا لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى فَكَذَلِكَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَيَنْقُصُ الضَّرَرُ الزَّائِدُ عَلَى الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ وَزَادَ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَاوَزَ بِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَأَبُو العباس بن سريج وأبو حامد المروروزي: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ اخْتِلَافًا لِلْقَوْلِ فِيهَا فَيَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِالزِّيَادَةِ كَالْمُتَجَاوِزِ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَ بَيْتًا لِحَمُولَةٍ مُسَمَّاةٍ فَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا، فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ سُفْلَ بَيْتٍ لِيُحْرِزَ فِيهِ مِائَةَ رطل حديد فأحرز منه مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا أَوْ عَدَلَ عَنِ الْحَدِيدِ إِلَى الْقُطْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ سُفْلَ الْبَيْتِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَلَا الْعُدُولُ عَنِ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ عُلُوُّ بَيْتٍ تَكُونُ الْحَمُولَةُ عَلَى سَقْفِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِمِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَأُجْرَةُ مِثْلِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قد استأجره مائة رِطْلٍ قُطْنًا فَوَضَعَ فِيهِ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَتَمَيَّزُ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَتَفَرَّقُ عَلَى السَّقْفِ، وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَكَانَ أَضَرَّ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى اخْتِيَارِهِ: أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَيُسْكِنُ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّارِينَ، أَوْ يَنْصَبُّ فِيهَا رَحًى، فَهَذِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ مَذْهَبٍ وَلَا حِجَاجٍ.