قول المقر مع يمينه لأن من أودع شيئاً فجائز أن يقول لفلانٍ عندي ولفلانٍ عليّ لأنه عليه ما لم يهلك وقد يودع فيتعدى فيكون عليه ديناً فلا ألزمه إلا باليقين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا ابْتَدَأَ الْمُقِرُّ فَقَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ ثُمَّ أَتَاهُ بِهَا وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي كُنْتُ أَقْرَرْتُ بِهَا كَانَتْ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَأَنْكَرَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَقَالَ: هَذِهِ لَعَمْرِي وَدِيعَتِي فِي يَدِكَ وَتِلْكَ أَلْفٌ أُخْرَى دَيْنٌ لِي فِي ذِمَّتِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْوَدَائِعِ فَصَارَ ظَاهِرَ الْإِقْرَارِ يُوجِبُ تَصْدِيقَ الْمُقَرِّ لَهُ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرُوفَ الصِّفَاتِ تَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ فَجَازَ أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ بِمَعْنَى عِنْدِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا احْتَمَلَهُ الْإِقْرَارُ فَهُوَ مَقْبُولٌ مِنَ المقر، وما قاله المقر ههنا مُحْتَمَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ يَعْنِي رَدَّهَا.
وَالثَّانِي: عَلَيَّ لِأَنَّنِي تَعَدَّيْتُ فِيهَا فَضَمِنْتُهَا. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِهَا وَدِيعَةً قَدْ تَلِفَتْ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ مَا تَلِفَ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ فَيُحْتَمَلُ عَلَيَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلى. وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ، وَلَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِ التَّعَدِّي فَلَمْ يَكُنْ لِسُقُوطِ ضَمَانِهَا وَجْهٌ فَلَزِمَهُ الْغُرْمُ.
: وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ، ثُمَّ أَحْضَرَ أَلْفًا وَقَالَ: هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي أَقْرَرْتُ لَهُ بِهَا كَانَتْ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: بَلْ هَذِهِ الْوَدِيعَةُ وَتِلْكَ دَيْنٌ غَيْرُهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا لِاحْتِمَالِ قَوْلِهِ فِي ذِمَّتِي لِتَعْدِيَةٍ فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ بِأَلْفٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشَارَ إِلَيْهَا أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُضَافَ إِلَى ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَمِ بَعْدَ التَّلَفِ فَتَنَافَيَا والله أعلم.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ درهمٍ وَدِيعَةً أو مضاربةً ديناً كانت ديناً لأنه قد يتعدى فيها فتكون مضمونة عليه ".