فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مَالٌ تَافِهٌ حَقِيرٌ، فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا عَظِيمًا وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمَقَادِيرِ فِي الشَّرْعِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَاسْتَدَلَّ لِمَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} (التوبة: 25) .
فَعُدَّتْ فَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مَوْطِنًا.
والدليل على جميعهم أن العظم إذا كانت صفة لقدر لَمْ يُوجِبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَظِيمٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أكثر من درهم لو لم يصفه بعظيم، فَكَذَا إِذَا كَانَ صِفَةً لِمُجْمَلٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ. فَلَمَّا كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مُقَدَّرًا وَجَبَ إِذَا أَقَرَّ بِمَالٍ عَظِيمٍ أَنْ لَا يَصِيرَ مُقَدَّرًا.
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لِأَنَّ الْقَلِيلَ قَدْ يَكُونُ عَظِيمًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، وَالْعَظِيمُ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدًّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى) {النساء: 77) فَجَعَلَ مَتَاعَ الدُّنْيَا قَلِيلًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8) فَجَعَلَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِتَوَجُّهِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَيْهِ فَصَارَ إِطْلَاقُ الْعَظِيمِ يَقْتَضِي إِضَافَتَهُ إِلَى الْمَجْهُولِ لِجَوَازِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَكُونُ مُقَدَّرًا.
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَظِيمَ لَا يَتَقَيَّدُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ حَدًّا وَلَا يَخْتَصُّ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا وَلَا قَدْرًا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَظِيمُ الْجِنْسِ، وَيُحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بالعظيم أنه حلال أو أنه موجب للثوابوالعقاب وَلِأَنَّ عَظِيمَ الْقَدْرِ قَدْ يَخْتَلِفُ عِنْدَ النَّاسِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ. فَالْخَلِيفَةُ يَرَى الْأَلْفَ قَلِيلًا وَالْفَقِيرُ يَرَى الدِّرْهَمَ عَظِيمًا. ثُمَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَعَةِ النُّفُوسِ وَضِيقِهَا، فَذُو النَّفْسِ الْوَاسِعَةِ يَرَى الْكَثِيرَ قَلِيلًا وَذُو النَّفْسِ الضَّيِّقَةِ يَرَى الْقَلِيلَ كَثِيرًا عَظِيمًا. وَمَعَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ وَتَبَايُنِ الْمُرَادِ بِهِ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدًّا أَوْ يَتَنَاوَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ جِنْسًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهُوَ أَنَّ مُرَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يُعْرَفْ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ إِنَّمَا عُرِفَ بِقَرِينَةِ صُحْبَتِهِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الدَّمِ تَغْلِيظًا فَعَقَلَ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ مَعَ مَا شَاهَدَهُ مِنْ حَالِهِ فِيهِ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ مئتا دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَلَوْ وُجِدَ فِي الْإِقْرَارِ مِثْلُهُ لَقُلْنَاهُ. ثُمَّ هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ اسْتِدْلَالًا بِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِيمَا ورد فيه.