أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ ذَكَرَهُ فِي إِفْصَاحِهِ: أَنَّ الشِّرَى جَائِزٌ وَهُوَ لِلْمُوَكِّلِ لَازِمٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمُعَيَّنِ أَحْوَطُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّ الشِّرَى بَاطِلٌ، لَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ غَرَضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الثَّمَنِ. فَصَارَ فِعْلُ الْوَكِيلِ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ. فَلَوِ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ وَاشْتَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ثم نقد الثمن من عنده بري الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ مِنْهُ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِنَقْدِ هَذَا المال في الثمن يتضمن نَهْيًا عَنْ نَقْدِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْإِذْنَ فِي الشِّرَى عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ. فَيَقُولُ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِلتَّعْيِينِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ: أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْعَبْدِ شَاهِدٌ فِيهِ. فَعَلَى هَذَا إِنِ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ كَانَ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ عَلَى الْعُمُومِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَكِيلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ. فَهَذَا شَرْحُ الْمُقَدِّمَةِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَعَامًا، فَتَسَلَّفَ الْمَالَ قَرْضًا ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالِهِ طَعَامًا. فَالشِّرَى غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَذِنَ فِي الشِّرَى بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الشِّرَى لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِذْنُ بِالْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِتَلَفِ الْمَالِ وَاسْتِهْلَاكِهِ بَاطِلَةٌ لِانْعِقَادِهَا بِهِ. وَإِذَا بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ فَعَقْدُهُ لَازِمٌ لِنَفْسِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ.
فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَسْتَهْلِكِ الْمَالَ وَلَكِنْ تَعَدَّى فِيهِ تَعَدِّيًا صَارَ لَهُ بِهِ ضَامِنًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْعَزِلُ بِتَعَدِّيهِ عَنِ الْوَكَالَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْعَزِلُ عَنِ الْوَكَالَةِ بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ كَالْمُودَعِ الَّذِي يَنْعَزِلُ بِالتَّعَدِّي عَنِ الْوَدِيعَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ دُونَ مُوَكِّلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لَا يَنْعَزِلُ عَنْهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ كَالْمُرْتِهَنِ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ بِتَعَدِّيهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الشِّرَى لَازِمًا لِلْوَكِيلِ.