قال المزني رضي الله عنه " وإن أمر الموكل الوكيل أن يدفع مالا إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لَمْ يقبل منه إلا ببينة واحتج الشافعي في ذلك بقول الله تعالى {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} وبأن الذي زعم أنه دفعه إليه ليس هو الذي ائتمنه على المال كما أن اليتامى ليسوا الذين ائتمنوه على المال وقال الله جل ثناؤه {فإذا دفعتم إليهم أموالهم} الآية وبهذا فرق بين قوله لمن ائتمنه قد دفعته إليك يقبل لأنه ائتمنه وبين قوله لمن لم يأتمنه عليه قد دفعته إليك فلا يقبل لأنه الذي ليس ائتمنه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِدَفْعِ مَالٍ إِلَى رَجُلٍ فَادَّعَى الْوَكِيلُ الدَّفْعَ وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ الْقَبْضَ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: -
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ، فَقَوْلُ الْوَكِيلِ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَوِ ادَّعَى دَفْعًا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ، فَوَكِيلُهُ فِي دَفْعِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ. وَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى حَقِّهِ فِي مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِدَيْنِهِ. وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِهِ.
فَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ أَوْ يُكَذِّبَهُ. فَإِنْ كَذَّبَهُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّفْعِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ. وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَمِينًا لَهُ فَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ لِلْمُوصِي وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي دَفْعًا إِلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْيَتِيمِ فِي دَفْعِهِ مَالَهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] لِأَنَّ غَيْرَ الْأَيْتَامِ ائْتَمَنُوهُمْ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْأَوْصِيَاءِ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] فَأَمَرَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الدَّفْعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْوَصِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ مال يتيم إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، لِأَنَّ الِائْتِمَانَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ. فَكَذَا قَوْلُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي دَفْعِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِ مُوَكِّلِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، لِأَنَّهُ دَفَعَ إِلَى غَيْرِ مُؤْتَمَنِهِ. إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْتَمَنُ مُوصِيًا مَاتَ أَوْ مُوَكِّلًا بَاقِيًا.
فَأَمَّا إِنْ صَدَّقَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ فِي الدَّفْعِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا لِلدَّفْعِ أَوْ غَائِبًا عَنْهُ. فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ مَعَ تَصْدِيقِ الْمُوَكِّلِ كَمَا كَانَ ضَامِنًا مَعَ تَكْذِيبِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الدَّفْعِ فَقَدْ فَرَّطَ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ يَقْتَضِي دَفْعًا يُبْرِئُهُ