فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْوَكَالَةِ فِي إِثْبَاتِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُوَكِّلِ من ثلاثة أحوال: -
أحدهما: أَنْ يَنْهَاهُ فِي الْوَكَالَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ الْإِثْبَاتِ وَلَا يَذْكُرَ الِاسْتِيفَاءَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلَا بِالْأَمْرِ بِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ليلى: يجوز له استيفاءه مَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِثْبَاتِ، فَجَازَ فِعْلُهُ مَعَ إِطْلَاقِ الْوَكَالَةِ كَالْمُوَكِّلِ فِي بَيْعٍ يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِيهِ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَنَهُ بِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ. وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْقِصَاصِ لَا يَقْتَضِي تَفْوِيتَهُ إِلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَأَبِ الطِّفْلِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ مُوجِبَاتِ إِثْبَاتِهِ لَكَانَ مِنْ شُرُوطِ وَكَالَتِهِ فَلَمَّا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ. فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْقَبْضُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ، وَخَالَفَ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْقِصَاصِ مَعَ مَا فِي الْقِصَاصِ مِنْ فَوَاتِ الِاسْتِدْرَاكِ.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ صَحَّتِ الْوَكَالَةُ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يقتص فتنحا بِهِ ثُمَّ عَفَا الْمُوَكِّلُ، وَقَتَلَ الْوَكِيلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ فِي فَوَاتِ اسْتِدْرَاكِهَا إِنْ حَدَثَ مِنَ الْمُوَكِّلِ عَفْوٌ عَنْهَا وَأَنَّهُ إِنْ حَضَرَ كَانَ أَرَقَّ قَلْبًا فِي الْعَفْوِ عَنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّهُمَا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ صَحَّ فِيهِ التَّوْكِيلُ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ قِيَاسًا عَلَى تَثْبِيتِ الْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ صَحَّ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَالْأَمْوَالِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّ التَّوْكِيلَ فِي اسْتِيفَائِهِ يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَحَمَلَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَاهُنَا عَلَى الْمَنْعِ إِذَا كَانَ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهِ وَحْدَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ حُضُورِ مُوَكِّلِهِ. وَأَنَّ معنى قوله فتنحا بِهِ عَنْ قُرْبِ مُوَكِّلِهِ إِلَى حَيْثُ يُسْتَوْفَى لَهُ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ، وَهُوَ شَاهِدُهُ، فَيُمْكِنُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْحُضُورِ اسْتِدْرَاكُ عَفْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.