وَكَانَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ لِأَنَّ مَا قُضِيَ عَلَى الْغَائِبِ أُحْلِفَ المدعي مع بينته والمدعي هاهنا لَا يَحْلِفُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً عَلَى الغائب والله أعلم.
قال المزني: " وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ فَدَفَعَهَا بِمَحْضَرِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ شَيْئًا حَلَفَ وَبَرِئَ وَقَضَى عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِدَفْعِ الْأَلْفِ إِلَى الطَّالِبِ وَيَدْفَعُ أَلْفًا إِلَى الضَّامِنِ لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِأَمْرِهِ وَصَارَتْ لَهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَلَا يُذْهِبُ حَقَّهُ ظُلْمُ الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ طَلَبَ الضَّامِنَ فَقَالَ لَمْ تَدْفَعْ إِلَيَّ شَيْئًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا ثَانِيَةً وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إِلَّا بِالْأَلْفِ الَّتِي ضَمِنَهَا عَنْهُ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّ الثَّانِيَةَ ظُلْمٌ مِنَ الطَّالِبِ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ أَلْفًا بِأَمْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَى الْمَضْمُونِ لَهُ وَأَنْكَرَهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الضَّامِنِ فِي دَفْعِهِ الْأَلْفَ إِلَى الطَّالِبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا يُشْهِدَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَشْهَدْ عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ بَيِّنَةً عِنْدَ إِنْكَارِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الْعَدَدِ نَاقِصَةَ الصِّفَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ.
فَإِنْ أَشْهَدَ بَيِّنَةً كَامِلَةَ الْعَدَدِ كَامِلَةَ الصِّفَةِ، مِثْلَ أن يشهد شاهدين عدلين أو شاهد وَامْرَأَتَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَلْفِ سَوَاءٌ بَقِيَ الشُّهُودُ عَلَى حَالِهِمْ أَوْ مَاتُوا، أَوْ فَسَقُوا، لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ وَالْفِسْقِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَهَلْ يُرَاعَى فِيمَنْ أَشْهَدَهُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ كَشُهُودِ النِّكَاحِ، أَوْ تُرَاعَى فِيهِمُ الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْقَاضِي إِذَا أَرَادَ إِنْفَاذَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ.
عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تُرَاعَى فِيهِمُ العدالة الظاهرة كالنكاح، لأن العدالة الباطنة يتعزز الْوُصُولُ إِلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُرَاعَى فِيمَنْ يَشْهَدُ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ كَشُهُودِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِثْبَاتُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.