فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْمُحْتَالِ كَانَ لِلْمُحِيلِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ مَنْعُهُ مِنْهَا إِلَّا أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى حَقِّهِ لِمَطْلِهِ إِلَّا بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَحْبِسَهَا عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً لَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ تَلِفَتْ عَلَى مِلْكِي أَمَانَةً فِي يَدِكَ فَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِي وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ تَلِفَتْ بَعْدَ أَنْ أَخَذْتُهَا مِنْ حَقِّي فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي مِنْكَ.
فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أن تكون الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَهَا، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا، فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُحِيلِ لَمْ يُقْبَلْ فِي إِبْطَالِ الْحَوَالَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَهَا فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ بِأَلْفٍ وَضَمِنَهَا لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ، وَضَمِنَهَا لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: -
أَحَدُهَا: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَلَيْسَ ضَمَانُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَالزُّبَيْرِيِّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَتِمُّ بِالْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَرِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا مُصَوَّرَةٌ فِي حَوَالَةٍ عَلَى مَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ، فَتَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ وَلَا تَصِحُّ إلا برضاه وقبوله.
(قال المزني) : " وَلَوْ قَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتَنِي عَلَيْهِ لِأَقْبِضَهُ لَكَ وَلَمْ تُحِلْنِي بِمَالِي عَلَيْكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمُحِيلُ مُدَّعٍ لِلْبَرَاءَةِ مِمَّا عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا بِعَكْسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا وَهُوَ إِنَّهُمَا اخْتَلَفَا بَعْدَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْتُكَ بِمَالِكِ عَلَيَّ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ بَلْ أَحَلْتَنِي لِأَقْبِضَهُ لَكَ نِيَابَةً عَنْكَ وَحَقِّي باقي فِي ذِمَّتِكَ، فَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ: الْقَوْلُ قَوْلُ المحتال، لأن المحيل مدعي للبراءة من حقه فكان فالقول قَوْلَ الْمُحْتَالِ:
وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ سُرَيْجٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُحْتَالِ، لَا يَخْلُو حَالُ الْحَوَالَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُحْتَالُ قَبَضَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ بَعْدُ،