: [القسم الثالث] وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ شِدَّةَ الْأَلَمِ وَتَطَاوُلَ الْبُرْءِ وَيَأْمَنَ التَّلَفَ، فَفِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْبُوَيْطِيُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) {المائدة 6) وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ، وَلِأَنَّ رُخَصَ الْمَرَضِ تُسْتَبَاحُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ لَا لُحُوقِ التَّلَفِ، كَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ التيمم، ولأنه لما جاز للمسافر أَنْ يَتَيَمَّمَ إِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي مَالِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي نَفْسِهِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ هَا هُنَا وَفِي الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ لَا يَخَافُ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي بِهِ صُدَاعٌ أَوْ حُمَّى، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِخَوْفِ التَّلَفِ كَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ، سَوَاءً فَكَانَ أَصَحَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْعَطْشَانُ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ شِدَّةَ الضَّرَرِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا لَوْ خَافَ التَّلَفَ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ.
(فصل)
: [القسم الرابع] وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَنْدُرُ الشَّيْنُ وَالشَّلَلُ وَيَأْمَنُ التَّلَفَ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ سَوَاءً، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو سَعِيدٍ يَقُولَانِ يَتَيَمَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا مَضَى، لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا مُتَأَبِّدٌ وَضَرَرَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ فِي الشَّلَلِ وَلَا يَتَيَمَّمُ فِي الشَّيْنِ؛ لأن في الشلل إبطال للعضو، وفي الشين قبحه، فكان الشين ضرراً ولم يكن الشلل ضرراً.
فَأَمَّا إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ لَا لِلْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِسْخَانِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بَعْدَ إِسْخَانِ الْمَاءِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج: 78) . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي ليلةٍ باردةٍ وأنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إذ