بِصِحَّتِهِ فَبَطَلَ بِبُطْلَانِهِ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهَا بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ وَقَالَ قَدْ حَطَطْتُهَا عَنْكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَبَرِئَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ أَحَدُ أَلْفَاظِ الْإِبْرَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَاقِيَةٌ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّ الْحَطِيطَةَ إِسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ لُزُومِهِ.
فَلَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا أَقَرَّ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَأَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي فَكَانَ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ مُسْتَحِقًّا فَالصُّلْحُ صحيح والإبراء لازم. ويرجع على المقر ببذل مَا اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ إِذَا أُخِذَ بِهِ مَالٌ مُعَيَّنٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ إلا بأحد أمرين:
[الأول] : إما الاستقرار بالقبض باستقرار الملك.
[الثاني] : وَإِمَّا لِتَعْيِينِهِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الصُّلْحِ هُوَ إِبْرَاءٌ وَلَيْسَ بِعَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَوِّضَاتِ اللَّازِمَةِ. فَغَلَبَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ فِي صِحَّةِ الصُّلْحِ وَلَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ فِي إِبْطَالِ الصُّلْحِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ ثُمَّ أَنْكَرَ جَازَ الصُّلْحُ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَصُولِحَ ثُمَّ أَقَرَّ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا. لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ الْحَادِثِ فَصَحَّ الصُّلْحُ إِذَا أَنْكَرَ بَعْدَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ بَعْدَ لُزُومِ الْحَقِّ. وَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ إِذَا كَانَ عَقِيبَ إِنْكَارِهِ وَقَبْلَ إِقْرَارِهِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْحَقِّ.
(فَصْلٌ)
فَلَوْ أَنْكَرَ الْحَقَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ جَازَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ لِلُزُومِ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ كَلُزُومِهِ بِالْإِقْرَارِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إِنْكَارِهِ فَقَالَ صَالِحْنِي عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ. وَلَوْ قَالَ مَلِّكْنِي ذَلِكَ كَانَ إِقْرَارًا يَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ صَالِحْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْخُصُومَةِ وَكَفَّ الْأَذَى فلم يضره مُقِرًّا.
وَقَوْلُهُ مَلِّكْنِي لَا يَحْتَمِلُ فَصَارَ بِهِ مقرا والله أعلم.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ رَجُلٌ يُقِرُّ عَنْهُ بِشَيْءٍ جَازَ الصُّلْحُ وَلَيْسَ لِلَّذِي أَعْطَى عَنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهِ ".