عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ السَّبْقِ وَالنِّضَالِ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ، أَوْ مَجْرَى الْجَعَالَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَارَةِ جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْجَعَالَةِ فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وقال الله تبارك وتعالى {فرهان مقبوضة} ".
قال الماوردي: وبه قال أبو حنيفة عِنْدَنَا عَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وكذلك الهبة.
وَقَالَ مَالِكٌ: الرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. كَالضَّمَانِ. وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ إِذَا شُرِطَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِنَفْسِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ كَالْأَجَلِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَازِمًا كَالْإِجَارَةِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَالدَّلَالَةُ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَصَفَ الرَّهْنَ بِالْقَبْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ كَوَصْفِ الرَّقَبَةِ بِالْإِيمَانِ وَالِاعْتِكَافِ بِالْمَسْجِدِ، وَالشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ، ثُمَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ شُرُوطًا، فَكَذَا الْقَبْضُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ غَيْرَ الرَّهْنِ مِنَ الْعُقُودِ وَلَمْ يَصِفْهَا بِالْقَبْضِ، وَذَكَرَ الرَّهْنَ وَوَصَفَهُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الرَّهْنِ بِالْقَبْضِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ، أَوْ لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ. وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ يُوجِبُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً لَا تُسْتَفَادُ بِحَذْفِ ذِكْرِهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ إِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْضُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ الْإِقْبَاضِ لَمْ يُجْبَرْ وَارِثُهُ على الإقباض، فلو كَانَ لَازِمًا بِالْقَوْلِ كَالْبَيْعِ لَاسْتَحَقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْبَيْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَى وَارِثِهِ الْإِقْبَاضُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ الْإِقْبَاضُ كَالْجَعَالَةِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَدْ يَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَهْنٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ تَسْلِيمُهُ كَالْوَارِثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَلْزَمُ وَارِثَ الْعَاقِدِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْعَاقِدَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَصْلُهُ عَقْدُ الْجَعَالَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبُولُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْقَرْضِ.