الْكَاتِبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَأَبَاحَهُ بِوُجُودِ شَرْطَيْنِ: السَّفَرِ وَعَدَمِ الْكَاتِبِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَيْفٌ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا رَافِعٍ اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: بِعْنِي إِلَى رَجَبٍ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَبِيعُهُ إِلَا بِرَهْنٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِدِرْعِي الْجَدِيدِ إِلَيْهِ. فَرَهَنَهُ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ سَفَرًا فَجَازَتْ حَضَرًا كَالضَّمِينِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ جَازَ فِيهَا الضَّمِينُ جَازَ فِيهَا الرَّهْنُ كَالسَّفَرِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّمَا ذكر فيها السفر لتعذر الشهادة فيه غَالِبًا لَا أَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَالْحُقُوقُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَجِبُ فِي مَالٍ، وَضَرْبٌ يَجِبُ فِي غَيْرِ مَالٍ. فَأَمَّا الْحُقُوقُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ: فَكَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَفِي مَعْنَاهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ وَإِنْ جَازَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ فِي مَالٍ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ قَدْ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا قَائِمَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبِ أَوْ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ كَالْوَدَائِعِ وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ بِالتَّلَفِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ التَّلَفِ قَالَ: لِأَنَّهُ مَالٌ مَضْمُونٌ فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا فِي الذِّمَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً لِلْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ كَالشَّهَادَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّهَا عَيْنٌ بَاقِيَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا كَالْعَيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً. وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ أَمَانَةً لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا إِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً.
أَصْلُهُ: مَا فِي يَدِ الْبَائِعِ من العين المبيعة.
ولأن الرهن وثيقة لاستيقاء الْحَقِّ مِنْهُ، وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ مَعَ بَقَائِهَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ بَدَلِهَا،