وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ لَبَنِ الْحَيَوَانِ مُعْتَبَرٌ بِطَهَارَتِهِ فِي حَيَاتِهِ كَلَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ.
وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ عِنْدَنَا طَاهِرٌ وَشُرْبُهُ حَلَالٌ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يَسَّارٍ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا هُوَ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الصِّغَارِ شُرْبُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ طَاهِرٌ وَشُرْبُهُ جَائِزٌ غَيْرَ أَنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ فَلَوْ جَازَ في الشرع لاختلفت فيه الْعَادَةُ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ وَإِنْ كان طاهرا فهو كالدموع والعرق، فلم لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّبَنِ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ. وَرُوِيَ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ ".
فَكَانَ دَلِيلُهُ أَنَّ مَا لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ لَمْ يَحْرُمْ ثَمَنُهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَبَنٌ يَحِلُّ شُرْبُهُ فَجَازَ بَيْعُهُ كَلَبَنِ النَّعَمِ طَرْدًا وَالْكِلَابِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّاتِ مُعَدٌّ لِلشُّرْبِ عُرْفًا وَشَرْعًا فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْمَاءِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ غَيْرُ مَبِيعٍ فِي الْعَادَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَادَةَ الجارية حالة عَلَى شَرْعٍ سَالِفٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَيْعِ الْمَنَافِعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، فَعِنْدَنَا أَنَّ بَيْعَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ إِذَا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّةٍ وَإِنْ خَالَفُونَا فِيهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي لَبَنِ الْحَاضِنَةِ هَلْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْكَفَالَةُ مقصودة واللبن تبع فعلى هذا لا نسلم التَّعْلِيل.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّبَنَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْكَفَالَةُ تَبَعٌ فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يُسْتَبَاحُ هَذَا اللَّبَنُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهَا. وَبَعْدَ الظُّهُورِ لَا يَجُوزُ بعقد الإجارة وتلك هي للحالة التي يجوز بيعه فيها وَأَمَّا الدُّمُوعُ وَالْعَرَقُ فَلَمَّا كَانَ مُحَرَّم الشُّرْبُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ لَمَّا جَازَ شُرْبُهُ وَانْتُفِعَ بِهِ جَازَ بيعه. والله أعلم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهُ بَيْعَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنِ فِي ضُرُوعِهَا إِلَّا بِكَيْلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا كَالْبَقْلِ وَالْقَصِيلِ وَهَذَا خَطَأٌ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع اللبن في الضرع والصوف على الظَّهْرِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ جُزْءًا لِمَا يَبْقَى مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ