وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ مَقْدُورٌ عَلَى رُؤْيَتِهِ، فَارْتَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَالْغَائِبُ لَمَّا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى رُؤْيَتِهِ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِهِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
فَأَمَّا بَيْعُ السَّلْجَمِ، وَالْجَزَرِ، وَالْبَصَلِ، وَالْفِجْلِ، فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ عَلَى شَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ جَوَازَ بَيْعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْعَيْنِ الْغَائِبَةِ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَ الْغَائِبِ مُمْكِنٌ؛ لِتَقَدُّمِ الرُّؤْيَةِ لَهُ، وَوَصْفُ هَذَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ قَلْعِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا فَسَخَ بَيْعَ الْغَائِبِ، أُمْكِنَ رَدُّهُ إِلَى حَالِهِ، وَإِذَا فَسَخَ بَيْعَ هَذَا الْمَقْلُوعِ مِنَ الْأَرْضِ، لَمْ يمكن رده إلى حاله.
فَأَمَّا بَيْعُ التَّمْرِ الْمَكْنُونِ فِي قَوَاصِرِهِ وجِلاله:
فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ بَيْعَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْغَائِبِ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي قَوَاصِرِهِ، قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا شَاهَدَ رَأَسَ كُلِّ قَوْصَرةٍ؛ لِأَنَّ فِي كَسْرِ كُلِّ قَوْصَرَّةٍ لِمُشَاهَدَةِ مَا فِيهَا مَشَقَّةً وَفَسَادًا، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَعْصَارِ بِالْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا مَا سِوَى التَّمْرِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الَّتِي فِي أَوْعِيَتِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَائِبًا، أَوْ غَيْرَ ذَائِبٍ.
فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا كَالزَّيْتِ وَالْعَسَلِ، فَإِذَا شَاهَدَ يَسِيرًا مِمَّا فِي الْوِعَاءِ أَجْزَأَهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ جَمِيعِهِ وَجَازَ بَيْعُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، كَالصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَائِبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاوَتُ أَجْزَاؤُهُ، وَيُبَايِنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَالثِّيَابِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ جَمِيعِهَا، إِلَّا أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاهِدَةٍ بِشَرْطِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ أَوِ الْحَاضِرَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ فِي الْغَالِبِ، أَوْ تَتَقَارَبُ كَالدَّقِيقِ وَالْقُطْنِ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ جَمِيعِهِ كَالثِّيَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ كَالذَّائِبِ.