قِيلَ: لِأَنَّ السَّلَمَ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَاسْتَوَى جَمِيعُ الْمَوَاضِعِ فِيهِ، فَافْتَقَرَ إِلَى ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْقَبْضُ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَهِيَ مُعَيَّنَةٌ قَدِ اخْتُصَّتْ بِمَوْضِعٍ هِيَ فِيهِ فَلَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ نَقْلِهَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَبَعًا وَشَرْطًا فِي مَعْنَى بَيْعِ ثَوْبٍ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتُهُ، أَوْ طَعَامٌ أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ طحنه.
هَلِ الْعَقْدُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ تَامٌّ أَمْ لَا؟
فَإِذَا عُقِدَ بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ تَامًّا قَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحاق المروزي: أَنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِتَامٍّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ يَكُونُ بِالرِّضَا بِهِ وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَمْ يَقَعِ الرِّضَا بِهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْدُ تَامًّا، فَعَلَى هَذَا، لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَلَمْ يَقُمْ وَارِثُهُ مَقَامَهُ، لِأَنَّ الْعُقُودَ غَيْرَ اللَّازِمَةِ، تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ بَطَلَ الْعَقْدُ.
وَعَلَى هَذَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: إِنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ، وَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّ أَحَدُهُمَا، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ وَقَامَ وَلَيُّهُ مَقَامَهُ.
وَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ.
فَإِذَا رَأَى الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ الْمَبِيعَةَ، فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الْعَيْبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ - لِأَنَّ عِنْدَهُ بِالرُّؤْيَةِ تَمَّ الْعَقْدُ. فَعَلَى هَذَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى التَّرَاخِي، مَا لَمْ يُفَارِقْ مَجْلِسَهُ، سَوَاءٌ وَجَدَ السِّلْعَةَ نَاقِصَةً عَمَّا وُصِفَتْ أَمْ لَا. وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْمَجْلِسِ خِيَارَ الثَّلَاثِ، وَتَأْجِيلَ الثَّمَنِ، وَالزِّيَادَةَ فِيهِ، وَالنُّقْصَانَ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَثْبُتُ لَهُ بِالرُّؤْيَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ - لأن عِنْدَهُ أَنَّ بِالْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، قَدْ تَمَّ الْعَقْدُ. فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا عَلَى مَا وُصِفَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ، وَإِنْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً، كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ عَلَى الْفَوْرِ.