حينئذٍ به، فلو حكم به عَدْلَانِ بِمِثْلٍ مِنَ النَّعَمِ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ آخَرَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ غَيْرِ الْمِثْلِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْعَدْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.
وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِهِمَا؛ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي اجْتِهَادِ الْفَقِيهَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَلَوْ حَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَحَكَمَ فِيهِ عَدْلَانِ أَنْ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ، كَانَ حُكْمُ مَنْ حَكَمَ فِيهِ بِالْمِثْلِ أَوْلَى مِنْ حُكْمِ مَنْ حَكَمَ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، ولأن النفي لا يعارض الإثبات.
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفْدِي إِلَّا مِنَ النَّعَمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (المائدة: 95) فَعَلَّقَ الْمِثْلَ بِالنَّعَمِ فَانْتَفَى عَمَّا سِوَى النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فِي الْأَضَاحِيِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةَُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) {المائدة: 1) قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّهُ غَيْرُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالضَّأْنِ، وَهِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ منَ الضَّأنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المِعْزَ اثْنَيْنِ) {الأنعام: 143) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ} (الأنعام: 144) ، فَهِيَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، فَإِذَا أَجْزَأَ الصَّيْدُ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ حَيًّا إِلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ أَصَابَ الصَّيْدَ فِي حِلٍّ أَوْ حرمٍ، لِقَوْلِهِ تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ) ؛ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ حَيًّا لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ متعبدٌ بِالْجَزَاءِ مِنَ النَّعَمِ وَإِرَاقَةِ دَمِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ أَعْلَمَ الْفُقَرَاءَ أَنَّ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَهُ وَنَحَرَهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِالدَّفْعِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ هديٌ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ يُوجِبُ تَمْلِيكَهُمْ، فَإِذَا ذَبَحَ الْجَزَاءَ فِي الْحَرَمِ فَرَّقَ لَحْمَهُ طَرِيًّا عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ بِمَا يُعْطَى كُلُّ فَقِيرٍ مِنْهُمْ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِالشَّرْعِ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُ عَلَى ثلاثةٍ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا فَلَوْ دَفَعَهُ إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الثَّالِثِ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَفِي قَدْرِ ضمانه وجهان:
أحدهما: يضمن الثلاثة مُسَاوَاةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ مِنْهُ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ في التفرقة لا تلزم.