أَحَدُهُمَا: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ طَافَ قَبْلَ شَوَّالٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ دَمٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَأْنَفَهَا فِيهِ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَأَحْرَمُ بِالْحَجِّ مِنْهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَلَكِنْ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ مُحْرِمًا فَفِي سُقُوطِ الدم عنه، قولان:
أحدهما: قد سقط عند الدَّمُ، كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ إِحْرَامَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ بِإِحْرَامِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ، فَأَحْرَمُ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ عَلَى حُكْمِ سَفَرِهِ، فَكَانَ عَلَى حُكْمِ حَجِّهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَحَلَّ إِحْرَامِهِ مَا بَيْنَ بَلَدِهِ وَمِيقَاتِهِ، فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِيقَاتِهِ سَقَطَ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ، إِلَى آخِرِ مِيقَاتِهِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِ جَمِيعِهِ، وَفِيهِ الْفِصَالُ.
: فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَحَاضِرِيهِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مَعًا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ أبو حنيفة يُكْرَهُ لَهُمُ التَّمَتُّعُ والقِران، فَإِنْ فَعَلُوا فَعَلَيْهِمْ دَمٌ كَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ) {البقرة: 196) فَاسْتَثْنَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي إِبَاحَةِ التَّمَتُّعِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) {البقرة: 196) وَهَذَا شَرْطٌ ثُمَّ قَالَ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} (البقرة: 196) وَهَذَا جَزَاءٌ ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ لِمْنْ لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 196) وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ يَرْجِعُ إِلَى الدَّمِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ لَا إِلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إِلَّا أن يكون مكياً تقديره فلا تعطيه شيئاً، ولأن قوله: فمن تمتع بالعمرة إخبار وقوله: فما استيسر من الهدي حُكْمٌ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضري المسجد الحرام اسْتِثْنَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّمُ فَصَارَ تقدير الآية: فمنع تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ نُسُكٍ جَازَ لِأَهْلِ الْآفَاقِ جَازَ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَالْإِفْرَادِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْإِفْرَادُ جَازَ لَهُ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ كَأَهْلِ الْآفَاقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ لَا يُكْرَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.