وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَجِبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَاعْتَبَرَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ بِالْأُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ) فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَأْخُوذًا مِنْهُ، وَالْفَقِيرَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْفَقِيرُ مَأْخُوذًا مِنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْغَنِيُّ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا النِّصَابُ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ بِاسْمِ الْفَقْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ قُوتِهِ شَيْءٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ وُجُودُ النِّصَابِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَاتِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ فَضْلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِخْرَاجُهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد به تنزيه الفقراء، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّدَقَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا: زِيَادَتُهَا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَنُقْصَانُهَا بِنُقْصَانِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْضُلْ من قوته شيء فالمعنى في أنه غير قادر عليه.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إِلَّا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّى عَنْ بعضهم وإن لم يكون عنده إلا قوت يومه فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ وَجَدَ زَكَاةَ فِطْرِهِ فَاضِلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا، وَاعْتِبَارُ وُجُودِ ذَلِكَ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّ بِهِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يعتبر وجود ذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ تَجِبُ زكاة الفطر، فإذا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، أَوْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ