فهذه الفترة تُعد بمثابة امتحان لمدى صدق الأمة في حبها لله وتعلقها به وتوكلها عليه، ومدى استعدادها للتضحية من أجله، وهي فترة المخاض الأخيرة لولادة الأمة الفتية القوية ..
ومن فوائدها كذلك أنها تقطع تعلق القلوب بما سوى الله، وتُجَرُّدها له سبحانه .. فعندما تنقطع الأسباب المادية، وينعدم الصبر، وتشتد الخطوب، لا تجد الأمة أمامها إلا الله عز وجل فتهرع إليه، وتدعوه دعاء المضطر المشرف على الغرق .. حينئذ يأتي الفرج، ويأتي النصر والتمكين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).
وبعد فترة الضيق والشدائد، سيأتي الفرج - بإذن الله - وتبدأ الأمة في التوحد شيئًا فشيئًا، وتتساقط رايات الباطل بسهولة ويسر، وهنا يظهر لجيل التغيير دور جديد ألا وهو العمل على تجميع الأمة على راية واحدة، وقيادتها لإقامة الخلافة الإسلامية، واسترداد كل الديار المغتصبة، وإنقاذ المسلمين المستضعفين في شتى بقاع العالم ...
ويستمر دور الجيل الموعود بعد ذلك في نشر الإسلام وأستاذية العالم وتحقيق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلوغ هذا الدين الآفاق، وفتح روما لتُصبح الدولة الإسلامية بذلك هي القوة الأولى في العالم، تنشر الأمن والأمان، وتنقذ البشرية من الضلالة، وتخرجها من الظلمات إلى النور.
نعم سيحدث ذلك - بإذن الله - كما حدث مع الجيل الأول، الذي بدأ بأفراد مطاردين مضطهدين في مكة، يقرأون القرآن، ويستمعون إلى آيات الوعد بالنصر والتمكين، وأقصى أمانيهم في ذلك الوقت أن يبيتوا آمنين، وألا يتعرض أحد منهم لأذى ... هؤلاء هم أنفسهم الذين رأو التمكين بأم أعينهم، وشاهدوا عز الإسلام ومجده، ويا للعجب أن يصبح خوفهم بعد ذلك على أنفسهم من فتنة بسط الدنيا عليهم ..
أخرج البخاري في صحيحه أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أُتي بطعام وكان صائما، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكُفِّن في بُردة أن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا في الدنيا ما بُسط، أو قال: أُعطينا من الدنيا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وهذا خباب بن الأرت - رضي الله عنه - يعود نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون له: أبشر يا عبد الله، إخوانك تُقم عليهم غدًا، فبكى وقال: أما إنه ليس بي جزع، ولكنكم ذكَّرتموني أقوامًا وسميتم لي إخوانًا، وإن أولئك قد مَضَوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم (?).
على جيل التغيير ألا يتخلى عن مهمته في قيادة الأمة حتى بعد أن يتم لها السيادة وأستاذية العالم، بل عليه أن يستمر في بناء الأجيال، والحفاظ عليها من أمراض الأمم مثل الترف والظلم، ومن ثَّم البعد عن الله عز وجل، والخروج من دائرة معيته وولايته.