دخل النور قلوب أهل يثرب فامتلأت بالإيمان، وتغيرت التصورات والاهتمامات، وتوحد الفرقاء، واجتمعوا جميعًا على كلمة واحدة، وتمسكوا بحبل الله المتين وهو القرآن فكان منهم ما كان من المستوى العجيب في البذل والتضحية والإيثار .. كل ذلك حدث قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم، والدليل على ذلك ما فعلوه مع إخوانهم المهاجرين من تكافل وإيثار في الدوُّر والأموال والثمار مع فقرهم وشدة حاجتهم، وما كان هذا ليحدث لولا المستوى الإيماني الراقي الذي وصلوا إليه من خلال القرآن: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر:9).
إذن فالانشغال بالقرآن والانتفاع بمعجزته والدخول في دائرة تأثيره هو العامل الرئيس الذي غيَّر الصحابة وصنع منهم ذلك الجيل الفريد الذي تفخر به البشرية حتى الآن.
وعندما نتحدث عن انشغال الصحابة بالقرآن فإن هذا يعني أول ما يعني، انشغالهم بتلاوته حق التلاوة، فكما قال ابن عباس في معنى حق تلاوته: "أي يتبعونه حق اتباعه" (?).
فقيمة القرآن الحقيقية في قدرته على التغيير وهذا بلا شك يستدعي فهم معانيه والتأثر بها والعمل بمقتضاها .. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به" (?).
وإن أردت مثالًا لطريقة الصحابة في قراءة القرآن فإليك هذا الأثر:
عن أبي ذئب - رحمه الله - عن صالح قال: "كنت جارًا لابن عباس - رضي الله عنهما - وكان يتهجد من الليل فيقرأ الآية ثم يسكت قدر ما حدثتك، وذلك طويل، ثم يقرأ، قلت: لأي شيء فعل ذلك؟ قال: من أجل التأويل، يفكر فيه " (?).
ويقول عباد بن حمزة: "دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (الطور:27). فوقفت عندها تعيدها وتدعو، فطال علىَّ ذلك فذهبت إلى السوق، فقضيت حاجتي وهي تعيدها وتدعو بها" (?).
إذن فليس معنى الانشغال بالقرآن هو كثرة قراءته باللسان دون تدبر معانيه بالعقل، أو تحريك القلب به، فهذا إن حدث فلن يحقق مقصود القرآن، وما نزل من أجل تحقيقه.
قيل للسيدة عائشة - رضي الله عنها - إن أناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا فقالت: (قرءوا ولم يقرءوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب، ولا يمر بآية فيها خوف إلا دعا واستعاذ" (?).
وعندما قال رجل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إني لأقرأ المفصَّل في ركعة، فقال عبد الله: " هذًّا كهذّ الشعر؟ إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه، نفع".
ويعلق النووي في شرحه لصحيح مسلم على قول ابن مسعود فيقول:
" معناه أن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل إلى قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب" (?).