فمع الله: يقوم القرآن بتعريف العبد بربه إلى أقصى ما يمكن أن تتحمله قدراته العقلية، ويصل به إلى أقرب ما يمكن أن يكون عليه بشر بعد الأنبياء - عليهم صلوات الله وسلامه - ويقوم القرآن كذلك بربط تلك المعرفة بمجريات الحياة، فلا يرى العبد إلا حكمة الله وراء أفعاله ومشيئته سبحانه، فينعكس ذلك على تعامله حتى يصل إلى درجة الإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فيناجيه من قريب، ويستشعر قربه منه، وقيوميته عليه، فيأنس به، ويزداد شوقه إليه ..
ومع الآخرة: فالقرآن يكشف للإنسان حقيقة أصله الحقير، ومدى ضعفه وعجزه، وجهله وحجم احتياجاته المطلوبة للاستمرار في الحياة وأنه بالله لا بنفسه، ولو تخلى عنه طرفة عين لهلك.
ومع بيان هذه الحقائق فإنه كذلك يعرفه بطبيعة نفسه المحبة للشهوات، المائلة للفجور والطغيان، الآمرة بالسوء ليشتد حذره منها، فلا ينسب لها فضلًا، بل يجاهدها، ويُروضها على الصدق والإخلاص ..
فإذا ما ربط العبد بين هذه المعارف وبين ما يحدث له في حياته تأكدت لديه حقيقة نفسه، وعاش أبدًا عبدًا ذليلًا منكسرًا لله متحررًا مما سواه.
- صفاء النبع: .. هذا الدور الخطير للقرآن لا يمكن أن يحدث إلا إذا تفرغ له العبد تفرغًا كبيرًا، وأعطاه وقته وقلبه وعقله، وأقبل عليه بكيانه ووجدانه، ولم يخلط معه غيره - وبخاصة في البداية - حتى يكون النتاج صحيحًا نقيًا مثمرًا .. وهذا ما حدثمع الصحابة رضوان الله عليهم، فلقد أدركوا قيمة القرآن وأن سبب نزوله الحقيقي هو هداية الناس إلى الله، وقيادتهم الآمنة إليه، فانكبوا عليه، وتفرغوا له، وساعدهم على ذلك أستاذهم ومربيهم، معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام، حريصًا على وحدة التلقي وصفاء النبع الذي يستقي منه الصحابة فكان دائم التوجيه لهم بعدم الانشغال بغير القرآن حتى يستطيع القرآن أن يقوم بدوره كاملًا في التغيير الجذري دون تشويش من أي شيء آخر ..
انظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقال: " يا رسول الله، إني أصبت كتابًا حسنًا من بعض أهل الكتاب "، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أمُتهوِّكون فيها ياابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيحدثوكم بحق فتكذبوا به، أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني) (?).
إذن لم يكن القرآن وحده لديهم على الساحة بل كانت هناك كتب اليهود والنصارى، وكان هناك ميراث الحضارات المجاورة، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على صفاء المنبع الذي يستقي منه الصحابة مصادر تكوينهم ليصفو النتاج.
ويؤكد الشهيد سيد قطب - رحمه الله - على هذا المعنى في تعليقه على هذه الحادثة فيقول:
" إذن فقد كان هناك قصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقصر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل في فترة التكوين على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده، ويستقيم عودهم على منهجه وحده، ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من منبع آخر".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد صنع جيل خالص القلب، خالص العقل، خالص التصور، خالص الشعور، خالص التكوين من أي مؤثر غير المنهج الرباني الذي يتضمنه القرآن (?).