بِذَلِكَ
قَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا) يَعْنِي لَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ مِنْ الْمَجُوسِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُقَامُ بِعَيْنِ الْعَصِيرِ بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ لِمُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ دَيْنٌ فَبَاعَ الذِّمِّيُّ خَمْرًا وَقَضَى دَيْنَهُ لِلْمُسْلِمِ مِنْ ثَمَنِهَا جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَخْذُهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ لَهَا مُبَاحٌ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِمُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ فَبَاعَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا وَقَضَاهُ مِنْ ثَمَنِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْخَمْرِ لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ الثَّمَنُ حَرَامًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(كِتَابُ الْوَصَايَا)
الْوَصِيَّةُ مَحْثُوثٌ عَلَيْهَا مُرَغَّبٌ فِيهَا غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ وَلَا وَاجِبَةٍ لَكِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ مَرِضْت مَرَضًا أَشْرَفْت فِيهِ عَلَى الْمَوْتِ فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مَالِي كَثِيرٌ وَلَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا بِنْتٌ وَاحِدَةٌ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْت أَفَبِنِصْفِهِ قَالَ لَا قُلْت أَفَبِثُلُثِهِ قَالَ نَعَمْ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك يَا سَعْدُ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ أَوْ يَمُدُّونَ أَكُفَّهُمْ» فِي الْمَسْأَلَةِ لِلنَّاسِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ فَإِذَا عَرَضَ لَهُ الْمَوْتُ وَخَافَ الْبَيَانَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي تَقْصِيرِهِ بِمَالِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْوَصِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ) لِأَنَّهَا إثْبَاتُ حَقٍّ فِي مَالٍ بِعَقْدٍ كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ قَوْلُهُ (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) أَيْ لِلْأَجْنَبِيِّ دُونَ الْوَارِثِ ثُمَّ الدَّيْنُ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ وَالْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ وَالْوَاجِبَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّبَرُّعِ ثُمَّ هُمَا مُقَدَّمَانِ عَلَى الْمِيرَاثِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الْمِيرَاثَ بَعْدَهُمَا بِقَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فَإِنْ قِيلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ الدَّيْنُ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا قِيلَ إنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَلَكِنَّهَا تُوجِبُ تَأْخِيرَ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا إذَا انْفَرَدَ وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ قِيلَ هَلْ الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى أَمْ تَرْكُهَا أَصْلًا قِيلَ إنْ كَانَ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَهُ فَتَرْكُهَا أَوْلَى وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَالْوَصِيَّةُ أَوْلَى وَقِيلَ هُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ مُخَيَّرٌ وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ رَجُلٍ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ قَالَ يَتْرُكُهُ لِوَرَثَتِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا لَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبْعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمْسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبْعِ
قَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ؛ وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَبِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ فَمَنْ كَانَ وَارِثًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ صَحَّتْ لَهُ الْوَصِيَّةُ وَمَنْ كَانَ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ صَارَ وَارِثًا وَقْتَ الْمَوْتِ لَمْ تَصِحَّ لَهُ الْوَصِيَّةُ مِثَالُهُ إذَا أَوْصَى لِزَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَبَانَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهَا وَلَوْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَاتَ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهَا وَالْهِبَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى أَنَّهَا تُنَفَّذُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ عَلَى عَكْسِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَالٍّ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَقْتَ الْإِقْرَارِ قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ) يَعْنِي بَعْدَ مَوْتِهِ وَهْم أَصِحَّاءُ بَالِغُونَ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّهِمْ فَيَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ وَإِنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَلِوَارِثِهِ فَلِلْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَتَبْطُلُ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى لِلْقَاتِلِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ
قَوْلُهُ (وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ)