وكان لا يتناول مما يُهدى لبيته شيئًا، بل ما كنت أظنُّ به الاطلاع على شيءٍ مِنْ ذلك، وطالما كان يُرسل مِنْ يشتري له مِنَ السُّوق ما لعلَّه يكونُ عندَ أهله.

ونحو ذلك أنَّه كان إذا اضطر إلى الحضور في الولائم والمهمَّات ونحوها ممَّا الغالب على أربابها عدمُ التَّوقِّي، يُوهِم أنَّه يأكل، بل ربما أعطى هذا وهذا ممَّن يكون جالسًا على السِّماط مِنَ الأتباع ونحوهِم مما بين يديه على الطَّريقة المألوفة في ذلك، بحيثُ يُسَرُّ صاحب المهِمِّ غالبًا، ولا يدخل في جوفه مِنْ ذلك شيئًا ألبتة.

ولقد قرأتُ بخطِّ بعضِ الأعيان مِنَ الحلبيين -كما تقدم في الباب الثاني (?) - أنه لمَّا كانَ بحلب صُحْبَةَ السُّلطان كان له راتِبُ لحم يُؤتى إليه به كلَّ يومٍ، قال: فكان لا يأكله، بل (?) يشتري له غيره.

وكان يتعفَّف -فيما بلغني- عن تعاطي معلوم الخطابة بالقلعة أيَّامَ قضائه، وهو أربعمائة درهم في كلِّ شهرٍ، لضَعْفِ الوقف، وراموا إجراءَ السَّفطِيِّ على ذلك، فلم يوافق، بل قال: هذا المعلومُ لكوني أُباشِرُ الوظيفةَ بنفسي أجعله مما أتقوَّتُه.

وكذا كان ما يصِلُه مِنْ الضَّحايا وشِبْهها يوزِّعُ ما لا يرتضيه منها لجماعته، فما يكونُ مِنْ جهةِ الصَّاحب كريم الدين كاتب المناخات لأمِّ أولاده، وما يكونُ مِنْ جهة الزَّيني الاستادار لولده، وما يكون مِنْ جهة السُّلطان -وكان الظَّاهِر يخصُّه بإرسال قَدْرٍ زائد عَنْ رفقته- يفرِّقه أجزاءً، إلى غير ذلك ممَّا يحرِصُ على عدم تعاطي أكلِ شيءٍ منه. نعم، بلغني أنَّه كان يأكل مما يرسل به إليه أميرِّ المؤمنين في رمضان.

ولم يزل يتَّجِر إلى أن مات، وضاع له الكثير مع وكلائه، كالشَّمس الزَّركشي، حسبما أشرتُ لقصته معه في الباب الثالث، وكالفقيه محب الدِّين بن الحمِّصاني السُّكَّري الذي كان يؤدِّبُ الأطفال بالمسجد المجاور

طور بواسطة نورين ميديا © 2015