متصدِّيًا للفتوى مكان أبيه -فيما يظهر- خلافًا لكثير من الغوغاء، حيث صرَّحوا بأن السلطان ألبسه تشريفًا بمشيخة الإسلام، وارتاح هو لذلك، بحيث كان مَنْ قدَّم له فُتيًا أو نحوها، ولم يلقِّبه بها، يمتنع غالبًا من إجابته مع زجره وإهانته، إن لم يكن ذا وجاهة بجاه أو غيره.
قلت: ونحوه أن شيخنا صاحب الترجمة أرسل له سؤالًا، افتتحه بقوله: ما يقول الفقهاء؟ فأرسل إليه نقيبه القزويني، فقال: يقول لكم القاضي: أيُّ فرقٍ بين وصفِ المفتي وبين فقيه الكُتَّاب؟ فأجابه بقوله: كنت مستعجلًا.
وابتُذِلتُ هذه اللفظة، فوصف بها على رأس المائة الثامنة، وما بعد ذلك مَنْ لا يُحصى كثرةً، حتى صارت لقبًا لكلِّ مَن وليَ القضاء الأكبر، ولو كان عاريًا عن العلم والسنّ، وغيرهما، بل صار جَهَلَةُ الموقِّعين وغيرهم يجمعون جُلَّ الأوصاف التي لا توجد الآن متفرقة في سائر الناس للشخص الواحد، والعجب ممن يُقِرُّهم على ذلك، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون!.
وقد كان صاحب الترجمة رحمه اللَّه جديرًا بوصفه بهذه اللفظة، لوجدان أكثر المعاني التي سقناها فيه، وعند إطلاقها من المعتبرين في زمنه لا يُراد بها، ولا يُفهم منها غيره، ولو لم يكن إلا أنه قد انتهت إليه مشيخة الإسلام في الحديث النبوي من غير مدافعة. وقد وصف الإمام المبجل أحمد بن حنبل -وناهيك بورعه وتحرِّيه- أبا الوليد الطيالسي، وأحمد بن يونس بمشيخة الإسلام، ولم يكن لهما سوى فن الحديث، ولم تنحصر مشيخته في واحد منهما، رحمهم اللَّه وإيانا.
وأما المحدث: فهو العارفُ بشيوخ بلده وغيرها، والضَّابطُ لمواليدهم، ووفياتهم ومراتبهم في العلوم. وما لهم من المرويات على اختلاف أنواعها، والمميِّزُ لعالي ذلك من نازله والمقتدرُ على تلخيص ما يقف عليه من الطِّباق والأسانيد، مُحرَّرًا، واستخراج الخطوط ولو تنوعت، والانتقاء على الشيوخ