الرِّحالُ مِنْ أقطار البلدان، إلى أن أتاه الوعد الصادق ممن هو بالحق ناطق، نزول الموت المحتوم في القضاء السابق، فعظُمَ على الخلق ذلك المصاب، وأجزل اللَّه لهم بالصبر على فقده الثواب، وعلموا أنَّ قضاء اللَّه سبحانه فصْلٌ لا يُدفع، وقدر اللَّه عز وجل عدل لا يمنع، وأنَّه لا يتمكن من مدافعته سلطانٌ بكثرة جمعه وعَدده، ولا ملِكٌ بتوفير سلاحه وعُددِه، وأنَّ الموت حوضٌ لا بدَّ لكل حيٍّ من وروده، ومنزلٌ لا مدفع لإنسان من حلوله ووفوده، وأنَّ الجزع غير متكقل برده، وفزعوا إلى الصبر الجميل فأحسن اللَّه العزاء للمسلمين من بعده، وإلا لكانت هذه الفجيعة النازلة، والوجيعةُ الهائلةُ، والرَّزِية العظيمة، والبلية الجهيمة، والواقعة العميمة، والمصيبة الجسيمة، موجبةً لتلف النفوس، وذهاب العقول، وأن تخِرَّ نجومُ السماء، وتَجْنَحَ شمسُ النهار للأفول.
فعندما أيِسَ الناس من وجوده بفقده، وفارقوا ما ألفوه من علمه ورِفده، انطلقت الألسُن برثاثه، وظهرت آثارُ بركته في أعدائه، وافتخر بصحبته أهل محبته وولائه، وتبجَّحُوا بذكر ما حضرهم من مناقبه، وعِظَم (?) مراتبه، وجميل سيرته في مناصبه، ورُؤيت له من المنامات الصالحة جملة بعد موته وقبله.
فلمَّا عاينت هذا الأمر، وانشرح بذكرِ فضائله ومناقبه الصَّدر:
أساميًا لم تَزِده معرفةً ... وإنَّما لَذَّة ذكرناها
أردت أن أُجدد لي ذكرًا بذكره، وأن أجمع لي (?) ترجمةً حافلة منَوِّهةً بعظم قدره، لتكونَ عن مآثره ومحاسنه سافرة، قيامًا بحقه في الدنيا، ورجاءً لثواب ذلك في الآخرة، وتكرَّر طلبُ ذلك من جماعة، فلم أرَ منعَه ودفاعه.