يَنْعَكِسَ إِدْرَاكُهُ كَمَا يَنْعَكِسُ سَيْرُهُ، فَيُدْرِكُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا، فَيَنْتَكِسُ فِي سَيْرِهِ وَيَرْجِعُ عَنْ سَفَرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، إِلَى سَفَرِهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ النُّفُوسِ الْمُبْطِلَةِ الَّتِي رَضِيَتْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاطْمَأَنَّتْ بِهَا، وَغَفَلَتْ عَنِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَتَرَكَتْ الِاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عُقُوبَةِ الذُّنُوبِ إِلَّا هَذِهِ وَحْدَهَا لَكَانَتْ دَاعِيَةً إِلَى تَرْكِهَا وَالْبُعْدِ مِنْهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَتَجْلُوهُ وَتَصْقُلُهُ، وَتُقَوِّيهِ وَتُثَبِّتُهُ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ فِي جَلَائِهَا وَصَفَائِهَا فَيَمْتَلِئَ نُورًا، فَإِذَا دَنَا الشَّيْطَانُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ مَا يُصِيبُ مُسْتَرِقَ السَّمْعِ مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ، فَالشَّيْطَانُ يَفْرَقُ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ أَشَدَّ مِنْ فَرَقِ الذِّئْبِ مِنَ الْأَسَدِ، حَتَّى إِنَّ صَاحِبَهُ لَيَصْرَعُ الشَّيْطَانَ فَيَخِرُّ صَرِيعًا، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا شَأْنُهُ؟ فَيُقَالُ: أَصَابَهُ إِنْسِيٌّ، وَبِهِ نَظْرَةٌ مِنَ الْإِنْسِ:
فَيَا نَظْرَةً مِنْ قَلْبِ حُرٍّ مُنَوَّرٍ ... يَكَادُ لَهَا الشَّيْطَانُ بِالنُّورِ يُحْرَقُ
أَفَيَسْتَوِي هَذَا الْقَلْبُ وَقَلْبٌ مُظْلِمٌ أَرْجَاؤُهُ، مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُ، قَدِ اتَّخَذَهُ الشَّيْطَانُ وَطَنَهُ وَأَعَدَّهُ مَسْكَنَهُ، إِذَا تَصَبَّحَ بِطَلْعَتِهِ حَيَّاهُ، وَقَالَ: فَدَيْتُ مَنْ لَا يُفْلِحُ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ؟
قَرِينُكَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْحَشْرِ بَعْدَهَا ... فَأَنْتَ قَرِينٌ لِي بِكُلِّ مَكَانِ
فَإِنْ كُنْتَ فِي دَارِ الشَّقَاءِ فَإِنَّنِي ... وَأَنْتَ جَمِيعًا فِي شَقَا وَهَوَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ - حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ - وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 36 - 39] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ عَشِيَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَعَمِيَ عَنْهُ، وَعَشَتْ بَصِيرَتُهُ عَنْ فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَمَعْرِفَةِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ - قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ شَيْطَانًا عُقُوبَةً لَهُ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ كِتَابِهِ، فَهُوَ قَرِينُهُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ فِي الْإِقَامَةِ وَلَا فِي الْمَسِيرِ، وَمَوْلَاهُ وَعَشِيرُهُ الَّذِي هُوَ بِئْسَ الْمَوْلَى وَبِئْسَ الْعَشِيرُ.
رَضِيعَا لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا ... بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّ قَرِينَهُ وَوَلِيَّهُ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ، وَيَحْسَبُ هَذَا الضَّالُّ الْمَصْدُودُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ هُدًى، حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَرِينَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} كُنْتَ لِي فِي الدُّنْيَا، أَضْلَلْتَنِي