اللَّهِ، ابْتَلَاهُ بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي جَلَبَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ مَا جَلَبَتْ، فَمَا أُتُوا إِلَّا مِنْ هَذَا الْعِشْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 72] .
وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ: الِاسْتِعَانَةُ بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَصِدْقُ اللَّجَأِ إِلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهِ، وَالتَّعْوِيضُ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَلَمِ الَّذِي يُعْقِبُهُ هَذَا الْعِشْقُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي تَفُوتُهُ بِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ، وَحُصُولُ أَعْظَمِ مَكْرُوهٍ، فَإِذَا أَقْدَمَتْ نَفْسُهُ عَلَى هَذَا وَآثَرَتْهُ، فَلْيُكَبِّرْ عَلَى نَفْسِهِ تَكْبِيرَ الْجِنَازَةِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْعِشْقُ الْمُبَاحُ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَعِشْقِ مَنْ وُصِفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ، أَوْ رَآهَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا، وَلَمْ يُحْدِثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ مَعْصِيَةً، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْأَنْفَعُ لَهُ مُدَافَعَتُهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْهُ، وَيَجِبُ الْكَتْمُ وَالْعِفَّةُ وَالصَّبْرُ فِيهِ عَلَى الْبَلْوَى، فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعَوِّضُهُ عَلَى صَبْرِهِ لِلَّهِ وَعِفَّتِهِ، وَتَرْكِهِ طَاعَةَ هَوَاهُ، وَإِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَهُ.
فَصْلٌ
أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِشْقِ
وَالنَّاسُ فِي الْعِشْقِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
مِنْهُمْ: مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُطْلَقَ، وَقَلْبُهُ يَهِيمُ فِي كُلِّ وَادٍ، لَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُقَيَّدَ، سَوَاءٌ طَمِعَ فِي وِصَالِهِ أَوْ لَا.
وَمِنْهُمْ: مَنْ لَا يَعْشَقُ إِلَّا مَنْ يَطْمَعُ فِي وِصَالِهِ.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ تَفَاوُتٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
فَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُطْلَقِ، يَهِيمُ قَلْبُهُ فِي كُلِّ وَادٍ، وَلَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ:
فَيَوْمًا بِحَزْوَى، وَيَوْمًا
بِالْعَقِيقِ وَبِالْ
عَذِيبِ يَوْمًا وَيَوْمًا بِالْخُلَيْصَاءِ ... وَتَارَةً يَنْتَحِي نَجْدًا وَآوِنَةً
شِعْبَ الْعَقِيقِ وَطَوْرًا قَصْرَ تَيْمَاءَ
فَهَذَا عِشْقُهُ أَوْسَعُ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ كَثِيرُ التَّنَقُّلِ:
يَهِيمُ بِهَذَا ثُمَّ يَعْشَقُ غَيْرَهُ ... وَيَسْلَاهُمْ مِنْ وَقْتِهِ حِينَ يُصْبِحُ
وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُقَيَّدِ أَثْبَتُ عَلَى مَعْشُوقِهِ، وَأَدْوَمُ مَحَبَّةً لَهُ، وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْأَوَّلِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي وَاحِدٍ، وَلَكِنْ يُضْعِفُهُمَا عَدَمُ الطَّمَعِ فِي الْوِصَالِ، وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الَّذِي يُطْمَعُ فِي وِصَالِهِ أَعْقَلُ الْعُشَّاقِ وَأَعْرَفُهُمْ، وَحُبُّهُ أَقْوَى لِأَنَّ الطَّمَعَ يَمُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ.