وَشِدَّتُهَا وَدَوَامُهَا بِحَسَبِ مَفَاسِدِ مَا رُتِّبَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْخِلْقَةِ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ أَصْلًا إِلَّا الذُّنُوبَ وَعُقُوبَاتِهَا، فَالشَّرُّ اسْمٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ، وَهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ مِنْهُمَا فِي خُطْبَتِهِ بِقَوْلِهِ: «وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا» .
وَسَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ مِنْ شُرُورِ النَّفْسِ، فَعَادَ الشَّرُّ كُلُّهُ إِلَى شَرِّ النَّفْسِ، فَإِنَّ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ مِنْ فُرُوعِهِ وَثَمَرَاتِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا» هَلْ مَعْنَاهُ: السَّيِّئُ مِنْ أَعْمَالِنَا، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ النَّوْعِ إِلَى جِنْسِهِ، أَوْ تَكُونُ " مِنْ " بَيَانِيَّةً؟ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: مِنْ عُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمِنْ عُقُوبَاتِ أَعْمَالِنَا الَّتِي تَسُوءُنَا، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقَوْلَ: أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الشَّرِّ، فَإِنَّ شُرُورَ الْأَنْفُسِ تَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةَ، فَنَبَّهَ بِشُرُورِ الْأَنْفُسِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ قُبْحِ الْأَعْمَالِ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا مِنْهُ، أَوْ هِيَ أَصْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ غَايَةَ الشَّرِّ وَمُنْتَهَاهُ، فَهُوَ السَّيِّئَاتُ الَّتِي تَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ عَمَلِهِ، مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَالْآلَامِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةُ أَصْلَ الشَّرِّ وَفُرُوعَهُ وَغَايَتَهُ وَمُقْتَضَاهُ.
وَمِنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُمْ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 9] .
فَهَذَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ وِقَايَتِهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَعُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَتَى وَقَاهُمْ عَمَلَ السَّيِّئِ وَقَاهُمْ جَزَاءَ السَّيِّئِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أَظْهَرَ فِي عُقُوبَاتِ الْأَعْمَالِ الْمَطْلُوبِ وِقَايَتُهَا يَوْمَئِذٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَأَلُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وَهَذَا هُوَ وِقَايَةُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَأَلُوا وِقَايَتَهَا، الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ، يَكُونُ الَّذِي سَأَلَهُ الْمَلَائِكَةُ نَظِيرَ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: " يَوْمَئِذٍ " فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ وِقَايَةُ شُرُورِ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهِيَ سَيِّئَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا.
قِيلَ: وِقَايَةُ السَّيِّئَاتِ نَوْعَانِ.
أَحَدُهُمَا: وِقَايَةُ فِعْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ فَلَا تَصْدُرُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: وِقَايَةُ جَزَائِهَا بِالْمَغْفِرَةِ، فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ سُؤَالَ الْأَمْرَيْنِ، وَالظَّرْفُ تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.