وَهَؤُلَاءِ يُصَرِّحُونَ بِرَفْضِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ فَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] . وَيُلْزِمُونَ أَنْفُسَهُمْ الْغَيْبَةَ عَنِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ الظَّاهِرِ وَالشَّرْعِ، فَلِهَذَا يَقُولُ أَحْذَقُهُمُ التِّلْمِسَانِيُّ:
فَقُلْ لِحِسِّكَ غِبْ وَجْدًا وَذُبْ طَرَبًا ... فِيهَا وَقُلْ لِزَوَالِ الْعَقْلِ لَا تَزُلِ
وَاصْمُتْ إِلَى أَنْ تَرَاهَا فِيكَ نَاطِقَةً ... فَإِنْ وَجَدْتَ لِسَانًا قَائِلًا فَقُلِ
وَهَؤُلَاءِ لِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ مَوْضِعٌ آخَرُ
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ النَّصَارَى زَعَمُوا أَنَّ اللَّاهُوتَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا اتَّحَدَ بِهِ مِنَ النَّاسُوتِ، وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُحْتَاجٌ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَعْيَانِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ.
فَإِنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ اتَّحَدَ بِغَيْرِهِ فَكُلٌّ مِنَ الْمُتَّحِدَيْنِ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْآخَرِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَتَغَيُّرِ حَقِيقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحُلُولُ الْمَعْقُولُ، فَإِنَّ الْحُلُولَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْحَالُّ قَائِمًا بِالْمَحَلِّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أُرِيدَ بِذَلِكَ حُلُولُ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ وَالْجَوَاهِرِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِ حُلُولُ الْأَعْيَانِ.