وَإِيضَاحُ كَوْنِ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي رُجْحَانَ ذَلِكَ، مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِإِنْسَانٍ وَلَا بِوَقْتٍ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ يُخَالِفُهَا، وَتَأْوِيلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بَعْضَ الْآيَاتِ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ، لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْهُ، فَلَا تُرَدُّ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأَوُّلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضَ الْآيَاتِ، وَسَنُوَضِّحُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّه صِحَّةَ الْمُقْدِمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ صَرِيحٍ، عُلِمَ بِذَلِكَ رُجْحَانُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الدَّلِيلَ يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى، وَهِيَ ثُبُوتُ سَمَاعِ الْمَوْتَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (?) : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يناديهم بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم: «يَا فلَان ابْن فلَان، وَيَا فلَان ابْن فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّه وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا، فَهَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا» ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا!! فَقَالَ