فنسب نَفسه، فَقَالَ: تَقول الشّعْر؟ قَالَ: قَدْ كنتُ أقوله، قَالَ: يَا عَلُّويه أنْشدهُ الشّعْر فأنشده، فَقَالَ: هَذَا شعرك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ونساؤه طوالقٌ وعبيدهُ أَحْرَار ومَالُه فِي سَبِيل اللَّه إِن كَانَ قَالَ شِعرًا غلا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة وَإِلَّا فِي زُهد أَوْ معاتبة صديق، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق اعزله، فَمَا كنت لأُوَلِّي الْحُكْم بَيْنَ الْمُسلمين من يبْدَأ فِي هَزله وجدِّه بِالْبَرَاءَةِ من الإِسْلام، ثُمَّ قَالَ: اسقوه، فَأتي بقدح فِيهِ شراب فَأَخذه بِيَدِهِ وَهِي ترْعد، ثُمّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اللَّه اللَّه مَا ذَقَته قَطّ، قَالَ: أفحرام هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أوْلَى لَك بهَا، أَي نجوت. ثُمَّ قَالَ لعلويه: لَا تقلْ برئتُ من الإِسْلام، وَلَكِن قُل:
حرمتُ منائِي مِنْك إِن كَانَ ذَا الَّذِي أتاكِ بِهِ الواشُون حَقًّا كَمَا قَالُوا
قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري: هَذَا القَاضِي هُوَ عُمَر بْن أبي بَكْر المَوْصِليّ، روى عَنْه الزبير بن بكار وَإِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذر.
قَالَ القَاضِي: مَدَّ الْمَأْمُون الْمُنى فِي هَذَا وَهُوَ مَقْصُور، وَكَانَ نحاة الْبَصْرَة من متقدميهم ومتأخريهم لَا يُجيزون ذَاك فِي شعر وَلَا نثر، إِلَّا الْأَخْفَش فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيزهُ فِي الشّعْر، وَهُوَ مَذْهَب مُتَقَدِّمي نُحاة الْكُوفِيّين، وَكَانَ الفَرَّاء يُجِيزهُ فِي بَعْض الْوُجُوه ويأباهُ فِي بَعْضهَا، فَأَما قصر الْمَمْدُود فِي الشّعْر فَجَائِز عِنْدَ جَمِيع النَّحْوِيين، وَلَو جعل مَكَان هَذَا: حُرمت رجائي أَوْ شفائي أَوْ مَا أشبههَا لَكَانَ وَجها صَحِيحا لَا يُنكر وَلَا يخْتَلف فِي جَوَازه.
ونظيرُ عزل هَذَا القَاضِي عَنْ عمله لمّا أنكرهُ إمامهُ من القَوْل السَّيئ فِي شِعره، الْخَبَر الْوَارِد عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ من عَزله النُّعْمَان ابْن عَدِيّ بْن نَضْلة، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاه عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُور الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وهْب بْن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: أُنبئت أنَّ عَدِيَّ بْن نَضْلة بْن عَبْد الْعُزَّى بْن حرثان بْن عَوْف بْن عُبَيْد بْن عويج بْن عَدِيّ بْن كَعْب مِمَّن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَمَات بهَا، وَكَانَ مَعَه ابْنه النُّعْمَان بْن عَدِيّ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْملهُ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى مَيْسان، فَقَالَ أبياتًا من الشّعْر فَعَزله، فَقَالَ:
أَلا هَلْ أَتَى الحسناءَ أنَّ حَليلَها ... بمَيْسان يُسْقَى فِي زجاجٍ وحِنْتَم
إِذَا شئتُ عادتَنِي دَهَاقِينُ قريةٍ ... ورقّاصة تجدو عَلَى كلِّ منسمِ
فَإِن كنت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تسقين بالأصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أميرَ الْمُؤمنِينَ يسوءهُ ... تنادُمُنا بالجَوْسقِ الْمُتَهَدِّم