وَهَذَا يدلُ على أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِما أَمر بِهِ من الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار وَمَا مسَّت النَّار الْأَدَب والتنظفَ دون الْوضُوء الْمَفْرُوض على من قَامَ إِلَى الصَّلَاة. وآراء الْمُحدثين، وترتيبُ الْأَخْبَار فِيهِ تتضمنه كتبنَا فِي الْفِقْه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عِيسَى عَن الْعَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيه عَن عوَانَة قَالَ: خطب الحجاجُ الناسَ بِالْكُوفَةِ فحمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الْعرَاق، تزعمونَ أنَّا من بَقِيَّة ثَمود، وتزعمون أَنِّي سَاحر، وتزعمون أنَّ الله عزَّ وَجَلَّ علَّمني اسْما من أَسْمَائِهِ أقهركم بِهِ، وَأَنْتُم أولياؤُهُ بزعمكم وَأَنا عدوه، فبيني وَبَيْنكُم كتاب الله تَعَالَى. قَالَ " عَزَّ وجلَّ: " فلمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجَّينا صَالِحًا والَّذين آمَنُوا مَعَهُ " هود " 66 " فنحنُ بقيةُ الصالِحين إنْ كنَّا من ثَمود. وَقَالَ جلّ وَعز: " إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى " " طه:69 " وَالله أعدلُ فِي حكمه من أَن يعلّمَ عدوا من أعدائِهِ اسْما من أَسْمَائِهِ يهزمُ بِهِ أولياءه. ثُمَّ حَمِيَ من كَثْرَة كَلَامه فتحامل على رمَّانة الْمِنْبَر فحطمها، فَجعل النَّاس يتلاحظونَ بَينهم وَهُوَ ينظرُ إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا أَعدَاء اللَّه مَا هَذَا الترامز؟ أَنا حُدَيا الظبي السانحِ والغرابِ الأبقع والكوكب ذِي الذَّنب، ثُمَّ أَمر بذلك العودِ فأُصْلِح قبل أَن ينزل من الْمِنْبَر.
قَالَ أَبُو بكر: الحديّا أَن يتحدَّى الرجلَ فَيَقُول: افعلْ كَذَا حَتَّى أَفعلهُ، ثُمَّ يفعل كَفعل أَخِيه.
قَالَ القَاضِي: قد أَتَى أَبُو بكر بِالْأَصْلِ فِي معنى حُدَيّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَقّق تَفْسِيره، وَمَا ذكره من تحدي الرجل ليَأْتِي بِفعل ثُمَّ يَأْتِي هُوَ بِمثلِهِ فَيكون هَذَا، وَيكون أَن يبرز الرجل على غَيره فِي شَيْء ويبرَّ فِيهِ على من سواهُ، ويبذّ فِي تمكنه مِنْهُ وَسَبقه إِلَيْهِ من عداهُ، فَإِن عَارضه فِيهِ غَيره وحكاهُ فقد قاومه وساواه، وَإِن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظَاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قَادر، لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي قصرته عَن المقاومة نبأ عَظِيم وخطب جسيم كَالَّذي كَانَ فِي تحدي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه أَن يعارضوا الْقُرْآن الَّذِي أبانه الله من سَائِر النَّاس، وَجعله من أكبر أَعْلَامه ودلائه، وَأَن يَأْتُوا بسورةٍ مثله، فَظهر عجزهم، وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم، وَقتلُوا دون ذَلِكَ وأسروا وأخربت دِيَارهمْ وتعقبت آثَارهم، فانقلبوا صاغرين أذلّاء داخرين. وَهَذَا بَاب قد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع مِمَّا ألفناه وأمللناه، من ذَلِكَ صدر كتَابنَا المسمَّى: " الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز ".
والحديَّا فِي هَذِه الْكَلِمَة أَتَى مصغّر اً وَلم يسْتَعْمل المكبَّر فِي بَابه، وَمثله كَثِير كقولِهم السُّكيت من الْخَيل، وحُمَيْل للطائر وكُمَيت. وَنَظِير الحديا الثريا، تَقْدِير الأَصْل فِيهَا غير مصغر